مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم 916

مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم 916

حدثنا محمد بن جعفر، وعفان، قالا: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن صهيب، عن ابن عباس، وقال: عفان - يعني في حديثه - أخبرنيه الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن صهيب، - قلت: من صهيب؟ قال: رجل من أهل البصرة - عن ابن عباس: " أنه كان على حمار، هو وغلام من بني هاشم، فمر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فلم ينصرف، وجاءت جاريتان من بني عبد المطلب، فأخذتا بركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، ففرع بينهما - أو فرق بينهما - ولم ينصرف " (1)

كان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد أصحابه، وينصحهم بترك الحرص على الدنيا وطول الأمل فيها، وكذلك فعل أصحابه رضي الله عنهم مع التابعين
وفي هذا الأثر يخبر أبو الأسود الديلي أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه بعث إلى قراء أهل البصرة ليجتمعوا عنده، والبصرة مدينة تقع في جنوب العراق، «فدخل عليه ثلاث مائة رجل قد قرؤوا القرآن» وحفظوه، فنصحهم وأرشدهم، فقال لهم: أنتم أفضل أهل البصرة وأهل القرآن فيهم، ثم أرشدهم أن يتلوا القرآن ويقرؤوه تلاوة مستوفية لحقوقها، وذلك يستلزم فهم معانيه، وتدبر آياته، واتباع أحكامه، وقال لهم: «ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم»، يعني: لا يكن أملكم في الدنيا كبيرا ولا تؤملوا البقاء فيها كثيرا؛ فإن ذلك مفسد للقلوب بما يجره إليها من الحرص والقسوة، حتى لا تلين لذكر، ولا تنتفع بموعظة ولا زجر، فتصيبكم قسوة وإعراض في قلوبكم كما أصابت الأمم من قبلكم لما طال أملهم في الدنيا، وهذا إشارة إلى قول الله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 16]
ثم أخبر أنهم كانوا يقرؤون سورة طويلة من القرآن، وقد نسخ تلاوتها، وكانوا يشبهونها في الطول والشدة بسورة براءة، وهي سورة التوبة، وأخبر أنه نسيها، ثم استثنى أبو موسى رضي الله عنه وأخبر أنه قد حفظ من معاني هذه السورة ما فيه ذم الحرص على الدنيا وحب المكاثرة بها والرغبة فيها، قال: «لو كان لابن آدم واديان من مال، لأحب أن يكون إليهما ثالث»، والوادي: هو كل منفرج بين جبال أو آكام. «ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب»، أي: أنه لا يزال حريصا على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره، ويحتمل أن يريد بالجوف القلب، ويريد بذلك أنه لا يمل من محبة المال؛ وذلك لأن الإنسان بطبعه ميال إلى حب المال، وفيه طمع، ولا يشبع منه، وليس له حد ينتهي إليه، إلا ما كان من مادته، وهو التراب
وأخبر أبو موسى رضي الله عنه أنهم كانوا يقرؤون سورة وكانوا يشبهونها بإحدى المسبحات، وهي السور التي افتتحت بـ(سبحان، وسبح، ويسبح، وسبح اسم ربك)، وأنه نسيها، وقد حفظ منها: «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون» وهو استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ لمن يقول عن نفسه من الخير ما لا يفعله؛ إما في الماضي فيكون كذابا، أو في المستقبل فيكون خلفا، وكلاهما مذموم، «فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة»، أي: فستكتب عليكم هذه الأقوال من الكذب؛ لأن ما قلتموه ولم تفعلوه يكون شهادة منكم، ويلزمكم، فتحاسبون عليه، ويكون جزاؤه شرا يوم القيامة
وهذا النسخ الذي أخبر به أبو موسى رضي الله عنه في هذا الحديث نوع من أنواع النسخ، وهو نسخ اللفظ والتلاوة؛ فالنسخ على ثلاثة أنواع: أحدها: نسخ الحكم وبقاء اللفظ والتلاوة. والثاني: عكسه، وهو نسخ اللفظ والتلاوة وبقاء الحكم. والثالث: نسخ الحكم واللفظ والتلاوة، وهذا النسخ هو الذي ذكر الله تعالى حيث قال: {ما ننسخ من آية أو ننسها} [البقرة: 106]، وكذلك قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله} [الأعلى: 6-7]، وهاتان السورتان مما شاء الله تعالى أن ينسيه بعد أن أنزله؛ وهذا لأن الله تعالى فعال لما يريد، قادر على ما يشاء؛ إذ كل ذلك ممكن. ولا يتوهم متوهم من هذا وشبهه أن القرآن قد ضاع منه شيء؛ فإن ذلك باطل؛ بدليل قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]، وبأن إجماع الصحابة ومن بعدهم انعقد على أن القرآن الذي تعبدنا بتلاوته وبأحكامه هو ما ثبت بين دفتي المصحف من غير زيادة ولا نقصان
وفي الحديث: الحرص على النصيحة لقراء المسلمين
وفيه: ذم الحرص على الدنيا وطول الأمل فيها
وفيه: ذم الكذب وتفاخر الإنسان بما لم يفعله
وفيه: كتابة ما يتكلم به الإنسان وسؤاله عنه يوم القيامة
وفيه: أن المؤمن ينبغي أن يكون أكبر همه العمل للآخرة، وألا تغره الدنيا وشهواتها