مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما419
مسند احمد
حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، حدثنا ابن المبارك (2) ، عن ليث بن سعد، حدثني عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يقول له (1) : أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا، يا رب، فيقول: ألك عذر، أو حسنة؟ فيبهت (2) الرجل، فيقول: لا، يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك، فتخرج له بطاقة، فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله (3) ، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم "، قال: " فتوضع السجلات في كفة "، قال: " فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا (4) يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم " (5)
مِن أعظَمِ الأعمالِ التي يَأتي بها العَبدُ يَومَ القيامةِ الشَّهادَتانِ، بأن يَشهَدَ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ، وقد جاءَتِ النُّصوصُ الكَثيرةُ ببَيانِ فَضلِهما وبَيانِ مَنزِلَتِهما في الدِّينِ، وأنَّهما سَبَبُ النَّجاةِ في الدُّنيا والآخِرةِ؛ ففي الدُّنيا يَنجو مَن قال أشهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ مِنَ القَتلِ، فيَعصِمُ بهما دَمَه ومالَه، وفي الآخِرةِ يَكونُ جَزاؤُه الجَنَّةَ إمَّا ابتِداءً إذا خَلا مِنَ الذُّنوب والمَعاصي، وإمَّا انتِهاءً إذا دَخَلَ النَّارَ، فأهلُ التَّوحيدِ مَصيرُهم إلى الجَنَّةِ، ولا يُخلَّدُ أحَدٌ مِن أهلِ التَّوحيدِ في النَّارِ، ومِمَّا جاءَ في فَضلِ الشَّهادَتَينِ في الآخِرةِ حَديثُ صاحِبِ البطاقةِ، يَقولُ صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّ اللَّهَ سيُخَلِّصُ، أي: يُمَيِّزُ ويَختارُ، رَجُلًا مِن أُمَّتي على رؤوسِ الخَلائِقِ يَومَ القيامةِ، أي: يُخرِجُه مِن بَينِهم ويُمَيِّزُه عنهم ويُظهِرُه، فيَنشُرُ، أي: يَفتَحُ، عليه تِسعةً وتِسعينَ سِجِلًّا، أي: كِتابًا كَبيرًا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثلُ مَدِّ البَصَرِ، أي: كُلُّ كِتابٍ مِنها طولُه وعَرضُه مِقدارُ ما يَمتَدُّ إليه بَصَرُ الإنسانِ. ثُمَّ يَقولُ اللهُ تعالى له: أتُنكِرُ مِن هذا شَيئًا؟ أي: مِنَ المَكتوبِ في هذه السِّجِلَّاتِ. أظلَمَك كَتَبَتي؟ جَمعُ كاتِبٍ، والمُرادُ الكِرامُ الكاتِبونَ، الحافِظونَ، أي: لأعمالِ بَني آدَمَ. يَقولُ الرَّجُلُ: لا يا رَبِّ، أي: أنَّه يُقِرُّ بجَميعِ ما في تلك السِّجِلَّاتِ. فيَقولُ اللهُ تعالى له: أفلَك عُذرٌ؟ أي: فيما فعَلتَه مِن كَونِه سَهوًا أو خَطَأً أو جَهلًا ونَحوَ ذلك. فيَقولُ الرَّجُلُ: لا يا رَبِّ، أي: ليس لي أيُّ عُذرٍ. فيَقولُ اللهُ تعالى له: بَلى، أي: لَك عِندَنا ما يَقومُ مَقامَ عُذرِك. إنَّ لَك عِندَنا حَسَنةً، أي: واحِدةً عَظيمةً مَقبولةً، وإنَّه لا ظُلمَ عليك اليَومَ، أي: أنتَ لا تُظلَمُ في هذا اليَومِ، فتُخرَجُ له بطاقةٌ، والبطاقةُ رُقعةٌ صَغيرةٌ يُثبَتُ فيها مِقدارُ ما يجعَلُ فيها؛ إن كان عَينًا فوَزنُه أو عَدَدُه، وإن كان مَتاعًا فثَمَنُه، في هذه البطاقةِ مَكتوبٌ فيها: أشهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه، أي: أنَّه قالها في أوَّلِ ما نَطَقَ بها في الدُّنيا، أو تَكونُ هذه الكَلِمةُ هيَ آخِرَ كَلمةٍ قالها في الدُّنيا عِندَ الاحتِضارِ، وقيلَ: يَجوزُ حَملُ هذه الشَّهادةِ على الشَّهادةِ التي هيَ الإيمانُ، ويَكونُ في كُلِّ مُؤمِنٍ، وكُلُّ مُؤمِنٍ تَرجَحُ حَسَناتُه، ويوزَنُ إيمانُه كما توزَنُ حَسَناتُه، وإيمانُه يَرجَحُ بسَيِّئاتِه. ثُمَّ يَقولُ اللهُ: اُحضُرْ وَزْنَك، أي الوَزنَ الذي لَك، أو وَزْنَ عَمَلِك، أو وقتَ وزنِك، أو آلةَ وزنِك، وهو الميزانُ؛ ليَظهَرَ لَك انتِفاءُ الظُّلمِ وظُهورُ العَدلِ وتَحَقُّقُ الفَضلِ. فيَقولُ الرَّجُلُ: يا رَبِّ ما هذه البطاقةُ، أي: الواحِدةُ، مَعَ هذه السِّجِلَّاتِ، أي: الكَثيرةِ، وما قَدرُها بجَانِبِها ومُقابَلَتِها؟ فيَقولُ اللهُ: فإنَّك لا تُظلمُ، أي: لا يَقَعُ عليك الظُّلمُ، لَكِن لا بُدَّ مِن اعتِبارِ الوزنِ كَي يَظهَرَ أنْ لا ظُلمَ عليك. فتوضَعُ السِّجِلَّاتُ في كِفَّةٍ، أي: فَردةٍ مِن زَوجَي الميزانِ، والبطاقةُ في كِفَّةٍ، أي: وتوضَعُ البطاقةُ في كِفَّةِ الميزانِ الأُخرى. فطاشَت أي: خَفَّتِ السِّجِلَّاتُ، وثَقُلَت، أي: رَجَحَتِ البطاقةُ، ولا يَثقُلُ، أي: ولا يَرجَحُ ولا يَغلِبُ مَعَ اسمِ اللهِ شَيءٌ. والمَعنى لا يُقاوِمُه شَيءٌ مِنَ المَعاصي، بَل يَتَرَجَّحُ ذِكرُ اللهِ تعالى على جَميعِ المَعاصي.
وفي الحَديثِ إثباتُ صِفةِ الكَلامِ للَّهِ تعالى.
وفيه بَيانُ كَمالِ عَدلِ اللهِ تعالى.
وفيه فَضلُ الشَّهادَتَينِ.
وفيه إثباتُ الميزانِ يَومَ القيامةِ.
وفيه بَيانُ أنَّ صَحائِفَ الأعمالِ تُوزَنُ يَومَ القيامةِ.
وفيه أنَّ مَن ثَقُلَت مَوازينُه فقد نَجا وسَلِمَ وفيه فضلُ اللهِ ورَحمَتُه بعِبادِه.