‌‌مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه 9

‌‌مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه 9

حدثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن مغيرة، عن أم موسى، عن علي، قال: " ما رمدت منذ تفل النبي صلى الله عليه وسلم في عيني " (3)

للهِ سُبحانَه وتعالى في خلْقِه شُؤونٌ؛ فإنَّه سُبحانَه نظَّمَ الكونَ، ولكنَّه سُبحانَه قد يَخرِقُ العادةَ لبعضِ النَّاسِ، فيجعَلُ لهم ميزةً ليستْ لغيرِهم مِن جِنسِهم؛ إظهارًا لقُدرتِه سُبحانَه.


وفي هذا الحديثِ يقولُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي لَيْلى: "كان أبو ليلى يَسمُرُ مع عليٍّ رضِيَ اللهُ عنه"، أي: يظَلُّ معه مُسامِرًا مُتكلِّمًا ومُتحدِّثًا في هِدْأَةِ اللَّيلِ، "فكان" عليٌّ رضِيَ اللهُ عنه "يلبَسُ ثيابَ الصَّيفِ في الشِّتاءِ، وثيابَ الشِّتاءِ في الصَّيفِ" على غيرِ المُعتادِ مِن النَّاسِ أنْ يلْبَسُوا لكلِّ فصْلٍ ما يُناسِبُه، فقال القومُ الَّذين حَضَروا سَمَرَ أبي ليلى مع عليٍّ رضِيَ اللهُ عنهما لأبي ليلى: "لو سألْتَه"، أي: عن سبَبِ عدَمِ شُعورِه بشدَّةِ الحرِّ أو البرْدِ، فقال عليٌّ رضِيَ اللهُ عنه مُبَيِّنًا سبَبَ فعْلِه ذلك: "إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَثَ إليَّ وأنا أرمَدُ العينِ"، أي: مُصابٌ بالرَّمَدِ وهو وجَعٌ بالعينِ، وذلِك يومَ فتْحِ خيبرَ، وكانت في السَّنةِ السَّابعةِ مِن الهجرةِ ضدَّ اليهودِ، "قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أرمَدُ العينِ، فتفَلَ في عينيَّ"، أي: فبصَقَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن فَمِه ومِن رِيقِه في العَينِ الَّتي بها رمَدٌ، فبرِئَت وشُفِيَتْ بإذنِ اللهِ تعالى، وهذا من دَلائلِ قُدرتِه؛ فإنَّه سُبحانَه إذا أرادَ شيئًا {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]، وهي أيضًا مِن دَلائلِ نُبوَّتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ.


ثمَّ دعا له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يذهَبَ عنه أذاهما، فقال: "اللَّهُمَّ أذهِبْ عنه الحَرَّ والبرْدَ"، قال عليٌّ رضِيَ اللهُ عنه: "فما وجَدْتُ حرًّا ولا بَردًا بعدَ يومئذٍ"، أي: فلم يكُنْ يشعُرُ بقَسوةِ الحرِّ ولا البرْدِ أو ضرَرِهما، فلا يحتاجُ إلى لُبْسِ ما يُناسِبُهما مِن الثِّيابِ صيفًا ولا شِتاءً؛ استجابةً لدَعوتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.


ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "لأبعثَنَّ رجُلًا يُحِبُّ اللهَ ورسولَه ويُحِبُّه اللهُ ورسولُه، ليس بفرَّارٍ"، أي: لا يفِرُّ ولا يهرَبُ مِن المعاركِ بل يثبُتُ ويصبِرُ ويقاتِلُ، وكونُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ينُصُّ على شخصٍ بعينِه بهذه الصِّفاتِ والخصائصِ مَنقبةٌ عظيمةٌ، ولذلِك حرَص عليها الصحابةُ، "فتشرَّفَ له النَّاسُ"، أي: ممَّا جعَلَ الصَّحابةَ يَتشوَّفونَ لتلك المُنقبةِ، ويتطلَّعونَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لعلَّه يختارُهم، "فبعَثَ إلى عليٍّ فأعطاه إيَّاه"، أي: أعطاه اللِّواءَ أو الرَّايةَ، وهو العَلَمُ الَّذي في الحرْبِ، يُعْرَفُ به موضعُ صاحبِ الجيشِ، وقد يحمِلُه أميرُ الجيشِ، وقد يدفَعُه لمُقدَّمِ العسكرِ.


وفي الحديثِ: مناقبُ ظاهرةٌ لعليٍّ رضِيَ اللهُ عنه.
وفيه: مُعجِزتانِ من مُعجزاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.