مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه344
مسند احمد
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بتمر ريان، وكان تمر نبي الله صلى الله عليه وسلم تمرا بعلا فيه يبس، فقال: أنى لكم هذا التمر؟ فقالوا: هذا تمر ابتعنا صاعا بصاعين من تمرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يصلح (2) ذلك، ولكن بع تمرك، ثم ابتع (3)حاجتك " (1)
وفي هذا الحديثِ يَرْوي التَّابعيُّ أبو نَضْرَةَ المنذِرُ بنُ مالكٍ أنَّه سَأل الصَّحابيَّينِ عبدَ اللهِ بنَ عُمرَ وعبدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهم عن الصَّرْفِ، وهو أنْ يَبيعَ النَّقدَ بعضَهُ ببعضٍ مُتفاضلًا وبزيادةٍ في المأخوذِ أو المعْطَى، مِثلُ بَيعِ دِينارٍ بدَينارَيْن، ودِرهمٍ بدِرهمينِ؛ هل هو بَيعٌ رِبويٌّ؟ فلمْ يَرَ ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ عمرَ به بَأْسًا، أيِ: إنَّ الصَّرفَ ليس بِرِبًا إن كان بهذه الصورة، وكان ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما يَرى أنَّ الرِّبا لا يَحرُمُ في شَيءٍ مِنَ الأشياءِ إلَّا إذا كان نَسِيئَةً مُؤجَّلًا.
وأخبَرَ أبو نَضْرةَ أنَّه كان في مَجلِسٍ آخَرَ عندَ الصَّحابيِّ أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضيَ اللهُ عنه، فسَأله عن الصَّرفِ، فقال: «ما زادَ فهو رِبًا» أي: ما زاد في أحدِ العِوَضينِ مِن البائعِ أو المشْتري فقدْ وَقَع فيه الرِّبا، فأخبَرَ أبو نَضْرةَ أنَّه أنكَرَ قوْلَ أبي سَعِيدٍ بسَببِ قولِ ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهم، فأخبَرَه أبو سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ الَّذي قاله هو الَّذي سَمِعَه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ حَدَّثه بالحديثِ، فقال: جاءَه صاحبُ نَخلةٍ بصاعٍ مِن تمرٍ طيِّب؛ يعني مِن أجودِ التمر. وكان تَمرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذا اللَّونَ، يُشيرُ إلى نَوعِ تَمرٍ آخَرَ رَديءٍ، فسَأله النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن تَمرِه الجيِّدِ: «أنَّى لكَ هذا؟» أي: مِن أيْن؟ أو كيْف أتَيْتَ به؟ وفي رِوايةٍ لمسْلمٍ: «كأنَّ هذا ليْس مِن تَمرِ أرضِنا»، فأخبَرَ الرَّجلُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قدْ باع الصَّاعَ مِن التَّمرِ الجيِّدِ بالصَّاعينِ مِن التَّمرِ الرَّديءِ، «فإنَّ سِعْرَ هذا في السُّوقِ كذا، وسِعْرَ هذا كذا» ومعناه: أنَّ سِعرَ التَّمرِ الرَّديءِ على النِّصفِ مِن سِعرِ التَّمرِ الجيِّدِ، فتَقايَضا صاعينِ بصاعٍ مُعتبِرينَ في ذلك سِعرَ السُّوقِ لكلِّ نوعٍ، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ويْلَكَ!» وهذا تَخويفٌ له وتَحذيرٌ مِن فِعلِه، «أَرَبَيْتَ» يعني: ما فعَلْتَهُ هو رِبا التَّفاضلِ والزِّيادةِ ولا يَصلُحُ ذلك، ثمَّ علَّمَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ البيعَ الصَّحيحَ الحلالَ، فقال له: «إذا أردتَ ذلك» أنْ تَأخُذَ مِن النَّوعِ الجيِّدِ، «فبِعْ تَمْرَكَ بسلعَةٍ، ثمَّ اشترِ بسِلعتِكَ أيَّ تَمرٍ شِئتَ». والمعنى: بِعْ تمرَكَ بثَمنِ يَومِه، ثمَّ اشترِ ما شئتَ مِن التَّمرِ بثَمنِ يَومِه أيضا، فإنَّ التَّمرَ بالتَّمرِ لا يَصلُحُ إلَّا أنْ يكونَا مُتماثلَيْنِ يدًا بيدٍ.
ثمَّ عقَّبَ أبو سَعِيدٍ رَضيَ اللهُ عنه على الحديثِ بقولِه: «فالتَّمرُ بالتَّمرِ أحقُّ أنْ يكونَ رِبًا أمِ الفِضَّةُ بالفِضَّةِ؟» فأبو سَعيدٍ استدلَّ وقاسَ الفِضَّةَ بالفِضَّةِ -وهو فرعٌ- بالأصلِ المذكورِ في الحديثِ الَّذي هو التَّمرُ بالتَّمرِ، والظَّاهرُ أنَّ فُتْيا ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عُمرَ بالجوازِ كانت أخْذًا بظاهرِ قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الصَّحيحينِ: «إنَّما الرِّبا في النَّسيئةِ»؛ فإنَّ هذا اللَّفظَ ظاهرُه الحصرُ، فكأنَّه قال: لا رِبًا إلَّا في النَّسيئةِ.
ثمَّ أخبَرَ أبو نَضْرَةَ أنَّه أتى ابنَ عمرَ رَضيَ اللهُ عنهما بعْدَ زمَنٍ، فنَهاهُ عن الصَّرفِ مُتفاضِلًا بعْدَ أنْ أفتاهُ بالجوازِ، وذكَرَ أنَّه لم يَذهَبْ إلى ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، وإنَّما حَدَّثَه التَّابعيُّ أبو الصَّهْبَاءِ أنَّه سَألَ ابنَ عَبَّاسٍ عن الصَّرفِ -وكان بمكَّةَ- فكَرِهَ التَّفاضُلَ في الصَّرفِ.
وفي الحديثِ: بَيانُ فَضلِ الصَّحابةِ، ورُجوعِهم إلى الحقِّ متى ظهَر لهم.
وفيه: أنَّ الرِّبا يقَعُ بالزِّيادةِ في التعامُلاتِ الماديَّةِ والنقديَّةِ وفي بُيوعِ السِّلَعِ بعضِها ببعضٍ مع التَّفاضُلِ والزِّيادةِ.
وفيه: أنَّ المسلمَ يَنبغي له الخروجُ ممَّا فيه شُبَهةُ رِبًا إلى ما يَخلو مِنها.
وفيه: دَليلٌ على أنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ لا تُطلَبُ إلَّا مِن الكتابِ أو السُّنَّةِ.