مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه 66
حدثنا يحيى بن سعيد، أنا سألته، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا ثابت
عن أنس، قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة، فتراءينا الهلال، وكنت حديد البصر فرأيته، فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ قال: سأراه وأنا مستلق على فراشي. ثم أخذ يحدثنا عن أهل بدر، قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرينا مصارعهم بالأمس، يقول: " هذا مصرع فلان غدا، إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا، إن شاء الله، قال: فجعلوا يصرعون عليها، قال: قلت: والذي بعثك بالحق ما أخطئوا تيك، كانوا يصرعون عليها . ثم أمر بهم فطرحوا في بئر، فانطلق إليهم، فقال: " يا فلان، يا (1) فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله حقا، فإني وجدت ما وعدني الله حقا "، قال عمر: يا رسول الله، أتكلم قوما قد جيفوا؟ قال: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا " (2)
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُبشِّرُ المؤمنينَ بوَعدِ اللهِ لهم بالنَّصرِ والتَّمكينِ، وقدْ أيَّدَه اللهُ سُبحانه بمُعجزاتٍ ظاهرةٍ، وفي هذا تَثبيتٌ وتَأييدٌ للمؤمنينَ أنَّهم على الحقِّ الَّذي جاءهُم به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن ربِّه سُبحانه
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم كانوا مع عُمرَ بنِ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه بيْن مكَّةَ والمدينةِ، فتَحرَّوا رُؤيةَ الهلالِ لتَحديدِ الشَّهرِ الَّذي هُم فيه هلْ يكونُ تِسعةً وعِشرين يومًا برُؤيةِ الهلالِ، أو ثلاثينَ يومًا عندَ تَعذُّرِ رُؤيتِه؟ قال أنسٌ رَضيَ اللهُ عنه: «وكنتُ رجلًا حديدَ البصرِ» أي: قويَّ الرُّؤيةِ، فرَأى بسَببِ ذلكَ الهلالَ وحْدَه دونَ غيرِه ممَّن كان معه، «فجَعَلْتُ أقولُ لِعُمرَ: أمَا تَراه؟» يَسْتحِثُّه على التَّأكُّدِ بنَفسِه ومِن رُؤيتِه له، وكان عمرُ رَضيَ اللهُ عنه لا يَراهُ، وقال عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه على إثرِ ذلكَ: «سَأَراه وأنا مُستلْقٍ على فِراشِي»، أي: نائمٌ عليه،
وهذا إشارةٌ إلى أنَّ الاعتبارَ في رُؤيةِ الهلالِ هو ظُهورُه في غيرِ مَشقَّةٍ للرَّائي ولكلِّ مَن صَحَّ بصَرُه، وجَعَل عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه وهُم يَنتظِرون ظُهورَ ووُضوحَ الهلالِ،
يُحدِّثُهم عَن أهلِ بدرٍ والَّذين قُتِلوا مِن المشْرِكين، وهي مَعرَكةٌ كانَتْ فاصِلةً بيْن الإيمانِ والكُفرِ،
وقَعَت في رَمضانَ مِنَ السَّنةِ الثَّانيةِ مِنَ الهِجرةِ.
وأخبَرَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه قبْلَ بَدءِ المعركةِ بيومٍ، جَعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُري أصحابَه رَضيَ اللهُ عنهم مَواضِعَ قتْلِ وهلاكِ الكفَّارِ، ويقولُ لأصحابِه: هذا مَصرَعُ فُلانٍ غدًا إنْ شاءَ اللهُ، وهذا مَصرَعُ فلانٍ، يُسمِّيهم بأسمائهِم، وهذا مِن مُعجزاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الظَّاهرةِ، فحَلَف عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه باللهِ الَّذي بَعثَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِالحقِّ، أنَّ هؤلاء القَتْلى ما تَجاوَزُوا المواضعَ الَّتي بَيَّنَها وعيَّنَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخبَرَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم أُلْقُوا في بِئرٍ مَهجورةٍ، بعضُهم على بعضٍ، وانطَلقَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى انْتَهى إليهم بعْدَ نِهايةِ المعركةِ، بعْدَما طُرِحوا في البئرِ وَقَف عليهم وهُم في البئرِ، فقال مُناديًا عليهم بأسمائهِم: يا فلانُ بنَ فلانٍ، ويا فلانُ بنَ فلانٍ، وفي رِوايةٍ أُخرى عندَ مُسلمٍ: «تَرَك قَتْلى بَدرٍ ثلاثًا، ثمَّ أتاهم فقامَ عليهم فَناداهُم، فقال: يا أبا جَهلِ بنَ هِشامٍ، يا أُميَّةَ بنِ خلَفٍ، يا عُتبةَ بنَ رَبيعةَ، يا شَيبةَ بنَ رَبيعةَ»، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
«هلْ وجدْتُم ما وعدَكَم اللهُ ورسولُه حقًّا؟» مِن العذابِ والوعيدِ والدَّارِ الآخِرةِ، «فإنِّي قد وجدْتُ ما وعدَني اللهُ حقًّا» مِن النَّصرِ والتَّمكينِ على المشْرِكين،
فَسَألَ عُمرُ رَضيَ اللهُ عنه رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:
«كيف تُكلِّمُ أجسادًا لا أرواحَ فيها؟!» أي: بِظاهِرِها أو بِكمالِها،
فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لعُمرَ: «ما أنتم بِأسمعَ لِمَا أقولُ» أي: لَستُم بأكثَرَ منهم سَماعًا لِما أقولُ، يعني: أنَّهم يَسْمَعون كسَماعِكم، «غيرَ أنَّهم لا يَستطيعونَ أنْ يَردُّوا عليَّ شَيئًا»،
أي: لكنَّهم لا يَستطِيعون الإجابةَ والرَّدَّ علَيَّ.
وفي الحديثِ: بيانُ رؤيةِ الهلالِ.
وفيه: إنجازُ اللهِ عزَّ وجلَّ ما وعَدَه نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: سَماعُ المَوتى لكلامِ الأحياءِ.
وفيه: إثباتُ عَذابِ القبرِ.