من قتل نفسه بشيء عذب به في النار 2
بطاقات دعوية
عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقى هو والمشركون فاقتتلوا فلما مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم وفي أصحاب رسول الله رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة (1) إلا اتبعها يضربها بسيفه فقالوا ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إنه من أهل النار فقال رجل من القوم أنا صاحبه أبدا (2) قال فخرج معه كلما وقف وقف معه وإذا أسرع أسرع معه قال فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه (3) بالأرض وذبابه بين ثدييه (4) ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أشهد أنك رسول الله قال وما ذاك قال الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس هو من أهل النار وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة. (م 1/ 74
حُسْنُ الخاتِمةِ مِن تَوفيقِ اللهِ سُبحانَه وتعالَى لِلعَبدِ، وهي ثَمَرةٌ لِجِهادِ الظَّاهِرِ والباطِنِ في طاعةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وسُوءُ الخاتِمةِ مِن خِذلانِ اللهِ لِلعَبدِ، وهي ثَمَرةُ التَّفريطِ في طاعةِ اللهِ، وتَرْكِ إخضاعِ القُلوبِ والجَوارِحِ له سُبحانَه.
وفي هذا الحَديثِ يَحكي سَهلُ بنُ سَعدٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الْتَقى هو والمُشرِكونَ، فاقتَتَلوا، فلَمَّا رَجَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى عَسكَرِه بَعدَ فَراغِ القِتالِ في ذلك اليَومِ، ورَجَعَ الآخَرونَ إلى عَسكَرِهم، وفي أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَجُلٌ اسمُه قُزْمانُ، لا يَدَعُ لِلمُشرِكينَ «شاذَّةً ولا فاذَّةً إلَّا اتَّبَعَها يَضرِبُهَا بسَيفِه»؛ إذْ كان شُجاعًا، لا يَلقاه أحَدٌ إلَّا قَتَلَه؛ لِقُوَّتِه وشَجاعَتِه، والشاذَّةُ في الأصْلِ هي التي كانَتْ في القَومِ ثم شَذَّتْ منهم، والفاذَّةُ مَن لم يَختَلِطْ معهم أصْلًا. فتحَدَّثَ النَّاسُ بشَجاعةِ هذا الفارِسِ، فقالوا: «ما أجْزَأ» -أي: ما أغنَى- مِنَّا اليَومَ أحَدٌ كما أجْزَأ فُلانٌ. فبَيَّنَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بوَحْيٍ مِنَ اللهِ أنَّه مِن أهلِ النَّارِ.
فقال رَجُلٌ مِنَ القَومِ -وهو أكثَمُ بنُ أبي الجَوْنِ الخُزاعيُّ رَضيَ اللهُ عنه-: أنا صاحِبُه، أي: أصحَبُه وأُلازِمُه؛ لِأنظُرَ السَّبَبَ الذي يَصيرُ به مِن أهلِ النَّارِ؛ فإنَّ فِعلَه في الظَّاهِرِ خَيرٌ وفَلاحٌ، وقد أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه مِن أهلِ النَّارِ.
فيَحكي هذا الرَّجُلُ أنَّه خَرَجَ معه وراقَبَه، فكُلَّما وَقَفَ وَقَفَ معه، وإذا أسْرَعَ أسْرَعَ معه، قال: فجُرِحَ الرَّجُلُ جُرحًا شَديدًا، فاستَعجَلَ به المَوتَ، فوَضَعَ نَصْلَ سَيفِه في الأرضِ «وذُبابَه» -أي: طَرَفَه الذي يَضرِبُ به- بيْنَ ثَدْيَيْه -تَثنيةُ ثَدْيٍ-، ثم تَحامَلَ، أي: مالَ على سَيفِه، فقَتَلَ نَفْسَه، فذَهَبَ الرَّجُلُ المُصاحِبُ له إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: أشهَدُ أنَّكَ رَسولُ اللهِ. فسَأَلَه: وما ذاكَ؟ فأجابَه: الرَّجُلُ الذي ذَكَرتَ أنَّه مِن أهلِ النَّارِ، فأعظَمَ النَّاسُ ذلك، أي: كَبُرَ عليهم ذلك، فقُلتُ: أنا لكمْ به. فخَرَجتُ في طَلَبِه، فذَكَرَ ما حَدَثَ.
واستُشكِلَ القَطعُ بكَونِه مِن أهلِ النَّارِ بمُجَرَّدِ عِصيانِه بقَتْلِ نَفْسِه، والمُؤمِنُ لا يَكفُرُ بالمَعصيةِ. وأُجيبَ باحتِمالِ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَلِمَ بالوَحْيِ أنَّه ليس مُؤمِنًا، وإنَّما هو مُنافِقٌ، أو أنَّه سيَرتَدُّ ويَستَحِلُّ قَتْلَ نَفْسِه.
فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِندَ ذلك: إنَّ الرَّجُلَ ليَعمَلُ عَمَلَ أهلِ الجَنَّةِ، كالطَّاعاتِ وأعمالِ البِرِّ ونَحوِها، وقَولُه: «فيما يَبدو لِلناسِ»، أي: ظاهرُ هذا العَمَلِ أنَّ صاحبَه سَيَكونُ مِن أهْلِ الجنَّةِ، وحَقيقَتُه غَيرُ ذلك، وهي كَونُه مُرائيًا ونَحوَ ذلك، فمِثلُ هذا الرَّجُلِ يَكونُ مِن أهلِ النَّارِ، وإلَّا فلو كان عَمَلًا صالِحًا مَقبولًا على حَقيقَتِه، وأحَبَّه اللهُ ورَضِيَه، لم يُبطِلْه عليه، ومِثلُه الذي يَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النارِ، كالمَعاصي والتَّقصيرِ في العِباداتِ ونَحوِ ذلك، وهذا فيما يَظهَرُ لِلنَّاسِ، وهو عِندَ اللهِ مِن أهلِ الجَنَّةِ، كأنْ يُوَفِّقَه لِلطَّاعاتِ وحُسنِ التَّوبةِ في خاتِمةِ حَياتِه.
وفي الحَديثِ: التَّحذيرُ مِن الِاغتِرارِ بالأعمالِ، وأنَّه يَنبَغي لِلعَبدِ ألَّا يَتَّكِلَ عليها، وألَّا يَركَنَ إليها؛ مَخافةَ انقِلابَ الحالِ.
وفيه: أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَنظُرُ لِلقُلوبِ والخَفايا، ويُؤاخِذُ العَبدَ على ذلك.