أحب الدين إلى الله عز وجل
سنن النسائي
أخبرنا شعيب بن يوسف، عن يحيى وهو ابن سعيد، عن هشام بن عروة، أخبرني أبي، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، فقال: «من هذه؟» قالت: فلانة، لا تنام تذكر من صلاتها. فقال: «مه، عليكم من العمل ما تطيقون، فوالله لا يمل الله عز وجل حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه»
الدِّينُ يُسرٌ لا عُسرٌ، وقد أرشَدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه إلى الطَّريقِ الأرشدِ للدِّينِ والتَّديُّنِ، فأوضَحَ أنَّه يَنْبغي على المؤمنِ أنْ يَقومَ بما يُطِيقُه مِن العِبادةِ، مع التَّرغيبِ في القصْدِ في العملِ؛ حتَّى لا يُصابَ بالمَلَلِ والفُتورِ
وفي هذا الحديثِ تَرْوي أمُّ المُؤمنِينَ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَخَلَ عليها يومًا وكانتْ عندَها امرأةٌ، فلمَّا سأَلَ عنها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ذكَرَتْ عائشةُ أنَّ هذه فُلانةُ، وسمَّتْها، ثمَّ ذكَرَتْ كَثرةَ صَلاتِها وعِبادتِها، وأطنَبَتْ في مَدْحِها، فزَجَرَها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقال: «مَهْ»! أي: كُفِّي عن مَدْحِها والثَّناءِ عليها؛ فما فعَلَتْه لا يَستحِقُّ الثَّناءَ؛ لمُخالفتِه السُّنَّةَ؛ فإنَّ الدِّينَ في مُتابَعةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والعمَلِ بسُنَنِه، وليس في التَّشديدِ على النَّفسِ وإرهاقِها بالعِبادةِ. ثمَّ أرشَدَنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: «ولكنْ عليكم بما تُطيقونَ»، فاشتَغِلوا مِن الأعمالِ بما تَستطيعون المُداوَمةَ عليه، وافعَلوا ما تَقدِرون عليه مِن الصِّيامِ والقيامِ، ولا تَشُقُّوا على أنفُسِكم.وقولُه: «فَوَاللهِ لا يَمَلُّ اللهُ حتَّى تَمَلُّوا»، مِن العُلماءِ مَن قال: إنَّ هذا دَليلٌ على إثباتِ صِفةِ المَلَلِ للهِ تعالَى، لكنَّ ملَلَ اللهِ ليس كمَلَلِ المخلوقِ؛ إذ إنَّ مَلَلَ المَخلوقِ نقْصٌ؛ لأنَّه يدُلُّ على سَأَمِه وضَجَرِه مِن هذا الشَّيءِ، أمَّا مَلَلُ اللهِ فهو كَمالٌ وليس فيه نقْصٌ، ويَجْري هذا كسائرِ الصِّفاتِ التي نُثبِتُها للهِ على وَجْهِ الكمالِ وإنْ كانت في حقِّ المَخلوقِ ليست كَمالًا. ومِن العُلماءِ مَن يقولُ: إنَّ قولَه: «لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا» يُرادُ به بَيانُ أنَّه مهْما عَمِلْتَ مِن عمَلٍ فإنَّ اللهَ يُجازِيك عليه، فاعمَلْ ما بَدَا لك؛ فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ مِن ثَوابِك حتَّى تَمَلَّ مِن العمَلِ، وعلى هذا فيكونُ المرادُ بالمَللِ لازمَ المَلَلِ. ومنهم مَن قال: إنَّ هذا الحديثَ لا يدُلُّ على صِفةِ المَلَلِ للهِ إطلاقًا؛ لأنَّ قولَ القائلِ: «لا أقومُ حتى تَقومَ» لا يَستلزِمُ قِيامَ الثاني، وهذا أيضًا: «لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا» لا يَستلزِمُ ثُبوتَ المَلَلِ للهِ عزَّ وجلَّ.قالتْ: وكانَ أحَبَّ الدِّينِ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -وفي رِوايةِ الصَّحيحينِ: «إلى اللهِ»- ما دامَ واستَمرَّ عليه صاحِبُه وإنْ قَلَّ، كما في رِوايةِ مُسلمٍ؛ لأنَّ بالدَّوامِ على القليلِ تَدومُ الطَّاعةُ والذِّكرُ، والمُراقَبةُ، والنِّيَّةُ والإخلاصُ، والإقبالُ على الخالِقِ سُبحانه وتعالَى، ويُثمِرُ القليلُ الدائمُ بحيث يَزيدُ على الكثيرِ المُنقطِعِ أضعافًا كَثيرةً
وفي الحديثِ: بَيانُ شَفقتِه ورَأفتِه بأُمَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
وفيه: أنَّ العَملَ القليلَ الدائمَ خَيرٌ مِن الكثيرِ المُنقطِعِ