باب الأمر بأداء الأمانة 2

بطاقات دعوية

باب الأمر بأداء الأمانة 2

 وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة، فقال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرا وليس فيه شيء». ثم أخذ حصاة فدحرجه على رجله «فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان». ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت: لئن كان مسلما ليردنه علي دينه، وإن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه، وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا (1)». متفق عليه. (2) [ص:88]
قوله: «جذر» بفتح الجيم وإسكان الذال المعجمة: وهو أصل الشيء
و «الوكت» بالتاء المثناة من فوق: الأثر اليسير. و «المجل» بفتح الميم وإسكان الجيم: وهو تنفط في اليد ونحوها من أثر عمل وغيره. قوله: «منتبرا»: مرتفعا. قوله: «ساعيه»: الوالي عليه.

الأمانة خلق عظيم من الأخلاق التي حثنا عليها الإسلام، فرغب فيها، وأثنى على من اتصف بها، وهي دليل على كمال إيمان العبد
وفي هذا الحديث يخبر حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدثهم بحديثين تحقق أحدهما ووقع في زمانهم، أما الآخر فلم يقع بعد بالنسبة لزمنه وحياته الذي حدث فيه بهذا الحديث، وأنه رضي الله عنه كان ينتظر وقوعه؛ أما الذي وقع فهو أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، وهي المذكورة في قول الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان} [الأحزاب: 72]، وهي عين الإيمان، أو كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله من المكلف، أو المراد بها التكليف الذي كلف الله تعالى به عباده، أو العهد الذي أخذه عليهم، أو الأمانة التي هي ضد الخيانة، وقيل: يعني: أن الإيمان قد استقر في أصل قلوب الرجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الأمانة كانت لهم بحسب الفطرة، ثم بطريق الكسب من الشريعة، وهو ما تعلموه بعد من القرآن ومن السنة، فكان إيمانهم هو السبب في قبولهم بالأخذ بالقرآن والسنة
أما الأمر الآخر الذي لم يقع في زمان حذيفة رضي الله عنه، وكان ينتظر وقوعه؛ فهو رفع الأمانة من قلوب الرجال، برفع ثمرتها، حتى إن الرجل ينام فينهض وقد رفع أثر الأمانة من قلبه، ولم يتبق منه سوى أثرها الذي هو كأثر الوكت، وهو الأثر اليسير كالنقطة، ثم ينام الرجل فينهض وقد نزعت الأمانة وأثرها من قلبه، فلم يتبق من أثرها إلا مثل المجل، وهو النفاخات التي تخرج في الأيدي عند كثرة العمل بنحو الفأس، «كجمر دحرجته على رجلك، فنفط، فتراه منتبرا وليس فيه شيء»، يعني: أثر ذلك مثل أثر الجمر الذي يقلب ويدار على القدم، فيخلف انتفاخا على القدم، وهذا الانتفاخ ليس فيه شيء صالح، إنما هو ماء فاسد، يريد أن الأمانة ترفع عن القلوب عقوبة لأصحابها على ما اجترحوا من الذنوب، فيصبح الناس، ويجري بينهم التبايع، ويقع عندهم التعاهد، ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة، بل يظهر من كل أحد منهم الخيانة في المبايعة والمواعدة والمعاهدة، فيقال من قلة الأمانة: إن في بني فلان رجلا أمينا، أي: كامل الإيمان وكامل الأمانة، ويقال في ذلك الزمان للرجل من أرباب الدنيا ممن له عقل في تحصيل المال والجاه: «ما أعقله! وما أظرفه!» أي: ما أحسن فهمه وتدبيره للشيء، «ما أجلده» وهو القوة والشدة، وحاصله أنهم يمدحونه بكمال عقله، وظرافة حاله، وجلد بدنه، وقوة بنيته، ولا يمدحونه بقوة إيمانه، وغزارة علمه النافع، وعمله الصالح، وهو ما أكده بقوله: «وما في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان»، أي: ليس فيه الشيء القليل من الإيمان، والخردل: نبات معروف يشبه الشيء القليل البليغ في القلة، وهو كناية عن تناهي العمل في الصغر. قيل: لا خلاف إذا ما أراد بالأمانة ظاهرها التي هي العهود وبين الأمانة التي هي الإيمان؛ لأن الإيمان الحقيقي مستلزم للأمانة التي هي العهود، وكذلك الأمانة مستلزمة للإيمان، والحاصل أن الأمانة هي كل العهود التي بين العباد وبين ربهم وفيما بينهم، فدخل فيها الإيمان دخولا أوليا
ثم أخبر حذيفة رضي الله عنه أنه أتى عليه زمان وما يبالي أي الناس عامله بيعا وشراء؛ لوجود الأمانة؛ لأنه لو كان مسلما سيمنعه دينه من الخيانة ويحمله على أداء الأمانة، وإن كان نصرانيا -ومثله اليهودي، كما في رواية مسلم- رده عليه ساعيه، أي: سيقوم عليه الوالي بالأمانة في ولايته، فينصفني ويستخرج حقي منه، «فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا»، إشارة منه إلى أن الأمانة قد ذهبت من الناس؛ فلا يؤتمن على البيع والشراء إلا القليل؛ لعدم الأمانة، وفي هذا إشارة إلى أن حال الأمانة أخذ في النقص من ذلك الزمان، وكانت وفاة حذيفة أول سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان بقليل، فأدرك بعض الزمن الذي وقع فيه التغيير
وفي الحديث: علم من أعلام نبوته؛ فقد أخبر بما وقع
وفيه: بيان رفع الأمانة عن القلوب.
وفيه: فضل زمن الصحابة رضي الله عنهم على من بعدهم؛ فقد كانت الأمانة كاملة فيهم.
وفيه: سرعة تقلب القلوب بسبب كثرة وقوع الفتن.
وفيه: أن فضل الإنسان في كمال أمانته، لا في كمال قوته، وشجاعته، وحسن تدبيره في الأمور الدنيوية؛ فإن هذه لا اعتبار لها إلا مع قوة الإيمان وكماله.
وفيه: أن حسن الوفاء بالعهد، وحسن التعامل مع الناس يدل على كون الإنسان أمينا، وأن الخيانة تنافي الإيمان.