باب الإيمان ماهو؟ وبيان خصاله
بطاقات دعوية
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن أناسا من عبد القيس قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا نبي الله إنا حي من ربيعة, وبيننا وبينك كفار مضر, ولا نقدر عليك إلا في أشهر الحرم, فمرنا بأمر نأمر به من وراءنا, وندخل به الجنة إذا نحن أخذنا به, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آمركم بأربع, وأنهاكم عن أربع, اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا, وأقيموا الصلاة, وآتوا الزكاة, وصوموا رمضان, وأعطوا الخمس من الغنائم, وأنهاكم عن أربع: عن (الدباء - والحنتم - والمزفت - والنقير) (1) قالوا: يا نبي الله ما علمك بالنقير؟ قال: "بلى جذع تنقرونه فتقذفون فيه من (القطيعاء) (2). قال سعيد: أو قال من التمر ثم تصبون فيه من الماء, حتى إذا سكن غليانه شربتموه حتى إن أحدكم أو إن أحدهم ليضرب ابن عمه بالسيف! قال: وفي القوم رجل أصابته جراحة كذلك, قال: وكنت أخبؤها حياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت ففيم نشرب يا رسول الله, قال: "في (أسقية الأدم) (3) التي يلاث (4) على أفواهها. قالوا: يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان, ولا تبقى بها أسقية الأدم, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وإن أكلتها الجرذان وإن أكلتها الجرذان, وإن أكلتها الجرذان," قال: وقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله, الحلم والأناة".
كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعلِّمُ النَّاسَ أُمورَ دينِهم في العِباداتِ والمُعامَلاتِ، والحلالِ والحرامِ، وكلَّ ما يُخرِجُهم منَ الظُّلماتِ إلى النُّورِ، وكانَ يُراعي التَّدرُّجَ والتِّيسيرَ لهُم.
وفي هذا الحديثِ يَروي أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ أُناسًا من عبدِ القَيسِ -وهي قَبيلةٌ كبيرةٌ يَسكُنون البحرَين شرقَ الجزيرةِ العربيَّةِ، يُنسَبونَ إلى عبدِ القيسِ بنِ أَفْصَى- قَدِموا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المدينةِ النَّبويَّةِ، وكانَ ذلك في رجبٍ منَ العامِ الثَّامِنِ للهِجرةِ، وكانوا أسلَموا قبلَ مَجيئهم، فلمَّا وقَفوا عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخبَروه أنَّهم حَيٌّ من قبائلِ ربيعةَ التي تُمثِّلُ شطرَ العربِ، وبينهم وبينه مسافاتٌ طويلةٌ، كما يُوجَدُ في المُنتصَفِ كُفَّارُ قبائلِ مُضَرَ، وهي الفرعُ الأكبرُ منَ العَرَبِ العَدنانِيِّينَ مُقارَنةً بِرَبيعةَ، حتَّى إنَّه يُستعاضُ أحيانًا عنِ اسمِ عدنانَ باسمِ المُضَريَّةِ، وكانوا يَتعرَّضونَ للقوافِلِ، ويَقطَعُونَ السَّبيلَ، ويَقتُلونَ ويَسلُبونَ، وخُصوصًا المُتوجِّهَ إلى المدينةِ الرَّاغِبَ في الإسلامِ، وبينهم وبين رَبيعةَ عَدَاءٌ، وكانوا يَخافونَهم، فلا يُمكِنُهمُ الوُصولُ إلى المدينةِ إلَّا بالمُرورِ عليهم، ولا يَقدِورنَ على الوُصولِ إلى المدينةِ إلَّا في الأشهُرِ الحُرُمِ الأربعةِ: ذي القَعدةِ، وذي الحِجَّةِ، والمُحرَّمِ، ورَجبٍ؛ فإنَّهم لا يَتعرَّضونَ لهُم، كما كانت عادةُ العربِ من تَعظيمِ الأشهُرِ الحُرُمِ، وامتناعِهم منَ القِتالِ فيها، ولذلك جاؤوا إلى المدينةِ في شهرِ رجبٍ، الشَّهرِ الذي تُقدِّسُه مُضَرُ وتُعظِّمُه، وتُبالِغُ في احترامِه أكثَرَ ممَّا تَفعَلُ في بَقيَّةِ الأشهُرِ الحُرُمِ؛ فإنَّهم يُلقُونَ فيه السِّلاحَ إلقاءً كامِلًا، ويُنصِلونَ فيه أسِنَّةَ الرِّماحِ، ويُسمُّونَه الأصَمَّ؛ لأنَّه لا تُسمَعُ فيه قَرقَرةُ السِّلاحِ.
وطلبَ وفدُ عبدِ القَيسِ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يُعلِّمَهم من أُمورِ دينِهم، ويَرجِعوا بذلك إلى قومِهم فيُعلِّموهم كما تَعلَّموا، ويَدخُلُوا به الجَنَّةَ إذا عَمِلوا به، فأخبَرَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأربعةِ أعمالٍ ونهاهم عن أربعةِ أشياءَ، فأمَّا الأعمالُ التي أمَرَهم بها فهي: عِبادةُ اللهِ وَحدَه وألَّا يُشرِكوا به شَيئًا، والعِبادةُ هي طاعةُ اللهِ تَعالَى بامتثالِ ما أمَرَ اللهُ به على ألسِنةِ الرُّسلِ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهي اسمٌ جامِعٌ لكلِّ ما يُحبُّه اللهُ تَعالَى ويَرضاه؛ منَ الأقوالِ والأعمالِ، الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، فيُوحِّدونَه بالعبادةِ مُتجرِّدينَ عنِ الشِّركِ، فإنَّ مَن لم يَتجرَّد عنِ الشِّركِ لم يَكُن آتيًا بعبادةِ اللهِ تَعالَى وَحدَه.
والأمرُ الثَّاني: إقامُ الصَّلواتِ المكتوبةِ (الفَجرِ والظُّهرِ، والعصرِ والمغربِ، والعِشاءِ) بأن تُؤدَّى في أوقاتِها، والمُحافَظةُ عليها.
والأمرُ الثَّالِثُ: أداءُ الزَّكاةِ المفروضةِ، وهي عِبادةٌ ماليَّةٌ واجِبةٌ في كُلِّ مالٍ بَلَغَ المِقدارَ والحدَّ الشَّرعيَّ، وحالَ عليه الحَولُ -وهو العامُ القمَريُّ أوِ الهِجريُّ- فيُخرَجُ منه رُبُعُ العُشرِ، وأيضًا يَدخُلُ فيها زَكاةُ الأنعامِ والماشيةِ، وزَكاةُ الزُّروعِ والثِّمارِ، وعُروضِ التِّجارةِ، وزكاةُ الرِّكازِ، وهو الكَنزُ المَدفونُ الَّذي يُستخرَجُ مِنَ الأرضِ، وقيلَ: المَعادِنُ، بحَسَبِ أنصابِها، ووقتِ تَزكيتِها.
والأمرُ الرَّابعُ: صَومُ شَهرِ رمَضانَ، وهو عِبادةٌ بَدَنيَّةٌ، والصِّيامُ: هو الإمساكُ بنيَّةِ التَّعبُّدِ عنِ الأكلِ والشُّربِ ووَطءِ النِّساءِ، وسائرِ المُفَطِّراتِ، من طُلوعِ الفَجرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ.
ثُمَّ زادَ واحدةً، وهي إعطاءُ الخُمُسِ مِنَ الغَنيمةِ، وهي كلُّ ما يَتحصَّلُ عليه من أهلِ الشِّركِ عَنوةً والحربُ قائمةٌ، فيُعطُونَ خُمسَ هذه الغنائمِ لله ولرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
ونَهاهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنِ استعمالِ أربعٍ منَ الأواني؛ الأوَّلُ: «الدُّبَّاءِ»، وهو الوعاءُ مِنَ اليَقطينِ والقرعِ اليابسِ، الثَّاني: «الحَنْتَمُ» وهي الجِرارُ الخُضرُ، الثَّالِثُ: «المُزفَّتُ» وهو المَطليُّ بالقارِ، الرَّابعُ: «النَّقِيرُ»، فسألَوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتعجِّبينَ ومُستبعِدينَ مَعرِفتَه به: كيفَ عرَفتَه ولم يَكُن بأرضِ قَومِك؟! فأخبَرَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه يَعرِفُه، ثُمَّ بيَّنَ له حقيقتَه وأنَّه جِذعٌ يَحفِرونَ وسَطه ويُلقونَ فيه -وفي رِوايةٍ: «تَذِيفونَ»، أي: يَخلِطونَ فيه- «القُطَيْعَاءَ» وهو نَوعٌ مِنَ التَّمرِ صِغارٌ يُترَكُ حتَّى يَشتدَّ ويَتخمَّرَ، ثُمَّ يَصبُّونَ الماءَ في ذلك الجِذعِ على ما فيه ويَتركونه حتى يُصبحَ خمرًا، ومَن يَشرَبُه يَسكَرُ، حتَّى إنَّه ليَضرِبُ ابنَ عمِّه بالسَّيفِ دُونَ أن يَشعُرَ؛ لأنَّه لم يَبقَ له عقلٌ، وهاجَ به الشَّرُّ، فيَضرِبُ ابنَ عمِّه الَّذي هو عندَه من أحبِّ أحبابِه، وهذه مَفسَدةٌ عَظيمةٌ، ونبَّه بها على ما سِواها منَ المَفاسدِ.
وكانَ في القومِ رجُلٌ قد أصابَته جِراحةٌ، واسمُ هذا الرَّجلِ جَهمُ بنُ قُثَمَ، وكانتِ الجِراحةُ في ساقِه، وكان يُخفي إصابتَه حَياءً مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه أُصيبَ بها نتيجةَ ضربِ رَجلٍ سَكرانَ له.
وأمَّا مَعنى النَّهيِ عن هذه الأربعِ: فهو أنَّه نَهى عنِ الانتباذِ والنَّقعِ فيها، وهو أن يُجعَلَ في الماءِ حبَّاتٌ من تَمرٍ، أو زَبيبٍ، أو نحوِهما؛ ليَحلُوَ، ويُشرَبَ، وإنَّما خُصَّت هذه بالنَّهيِ؛ لأنَّه يُسرِعُ إليه الإسكارُ فيها، فيَصيرُ حَرامًا نَجسًا، وتَبطُلُ ماليَّتُه، فنَهَى عنه؛ لِما فيه من إتلافِ المالِ، ولأنَّه ربَّما شَرِبه بعدَ إسكارِه مَن لم يطَّلِع عليه.
ثُمَّ إنَّ هذا النَّهيَ كانَ في أوَّلِ الأمرِ، ثمَّ نُسِخَ بما رواه مُسلِمٌ في صَحيحِه عن بُرَيدةَ رَضيَ اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: «وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا».
فسألوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أيِّ شَيءٍ يَشربونَ، فأمَرَهم بالشُّربِ في آنيةِ «الأَدَمِ» وهو الجِلدُ المَدبوغُ المتَّخَذُ مِنَ الحيوانِ، الَّتي «يُلاثُ على أفواهِها»، أي: يُربَطُ ويُلَفُّ بعضُها على بعضٍ، وإنَّما حضَّهم على الشُّربِ في آنيةِ الأدَمِ؛ لرِقَّةِ جُلودِها، ولا يُسرِعُ إليها فسادُ الأشرِبةِ، فأخبَرُوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ أرضَهم يَكثُرُ بها الجِرذانُ، وهي الفِئرانُ القارِضةُ، وأنَّها لا تُبقي أسقيةَ الجِلدِ بَل تأكُلُها، فلم يَعذِرْهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك؛ لأنَّه اعتقدَ أنَّه ليسَ بأمرٍ غالِبٍ يَشُقُّ التَّحرُّزُ منه، وأنَّ هذا ليسَ ممَّا يُباحُ للضَّرورةِ، وقالَ: «وإنْ أكَلَتْهَا الجِرْذَانُ» ثلاثَ مرَّاتٍ للتَّأكيدِ.
ثُمَّ أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أشَجَّ عبدِ القيسِ -واسمُه المُنذِرُ بنُ عائذٍ العَصَريِّ رَضيَ اللهُ عنه- أنَّ فيه خَصلتَينِ يُحِبُّهما اللهُ ورسولُه: هُما الحِلمُ، أيِ: العقلُ مع الصَّبرِ، والأناةُ: وهي الرِّفقُ والتَّثبُّتُ في الأمورِ، فأثْنى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليه بالحِلمِ والأناةِ، وأخبَرَ بحُبِّ اللهِ ورسولِه لهُما. وهذه الصِّفاتُ الخُلُقيَّةُ قد تَكونُ جِبلِّيَّةً فِطريَّةً، وقد تَكونُ مُكتسَبةً بالمِرانِ والمُمارَسةِ.
وفي الحديثِ: وِفادةُ الفُضَلاءِ والرُّؤساءِ إلى الأئمَّةِ عندَ الأُمورِ المُهمَّةِ.
وفيه: تَقديمُ الاعتذارِ بين يدَيِ المسألةِ.
وفيه: بَيانُ مُهِمَّاتِ الإسلامِ وأركانِه.
وفيه: بيانُ فضيلةِ الأشَجِّ عبدِ القيسِ رَضيَ اللهُ عنه لاتِّصافِه بالأخلاقِ الحَميدةِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ الثَّناءِ على الإنسانِ في وجهِه إذا لم يخَف فتنةً وإعجابًا ونحوَه.
وفيه: إثباتُ صِفةِ المَحبَّةِ لله تَعالَى على الوجه اللَّائقِ به سُبحانَه.
وفيه: خُطورةُ شُربِ الخَمرِ وأثرِها في المُجتمَعِ.