باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقول الله تعالى: (واجعلنا للمتقين إماما) 3
بطاقات دعوية
عن جابر بن عبد الله قال:
جاءت ملائكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلا، فاضربوا له مثلا، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا:
مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا:
فالدار الجنة، والداعي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن أطاع محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقد أطاع الله، ومن عصى محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقد عصى الله، ومحمد فرق (5) بين الناس.
رفعَ اللهُ سُبحانَه قَدرَ نبيِّه مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجَعَلَ له مكانةً عَظيمةَ بين الأنبياءِ؛ إذ أرسَلَه هِدايةً ورحمةً للعالَمين، وخَتَمَ به الرِّسالاتِ السَّماويَّةَ، وأكمَلَ به الدِّينَ، وفي هذا الحديثِ ضَرَبَتِ الملائكةُ له مَثلًا يُبيِّنُ بعضَ خصائصِه وفضائلِه؛ فيَروي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما قِصَّةً سَمِعَها مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حيثُ يُخبِرُ أنَّه قد جاءت جماعةٌ منَ الملائكةِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو نائمٌ، فلمَّا رأته الملائكةُ قالت: إنَّ لِصاحِبِكم محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -والمُخاطَبُ بعضُ الملائكةِ- «مَثَلًا»، أي: صِفةً عَجيبةَ الشَّأنِ، «فاضرِبوا له مَثَلًا» يُبيِّنُ حالتَه العَجيبةَ، فقالَ بعضُ الملائكةِ: «إنَّه نائمٌ»، فلن يَسمَعَنا، فلا يُفيدُ ضَربُ المَثَلِ شيئًا، «وقال بعضُهم: إنَّ العينَ نائمةٌ، والقلْبَ يَقْظَانُ» يَعي ويُدرِكُ، فلا يَفُوتُه شَيءٌ ممَّا تقولون؛ فإنَّ المدارَ على المَدارِكِ الباطنيَّةِ دونَ الحواسِّ الظَّاهريَّةِ، وقيل: هذا تَمثيلٌ يُرادُ به حَياةُ القلبِ وصِحَّةُ خَواطرِه، يُقالُ: رجُلٌ يَقِظٌ؛ إذا كان ذَكيَّ القلبِ، وهذه مُناظرةٌ جَرَت بينهم بَيانًا وتَحقيقًا لِمَا أنَّ النُّفوسَ الكاملةَ لا يَضعُفُ إدراكُها بضَعفِ الحواسِّ الظَّاهرةِ واستراحةِ الأبدانِ، بل رُبَّما يَقوى إدراكُها عندَ ضَعفِها، «فقالوا: مَثَلُه كمَثَلِ رجُلٍ بَنى دارًا»، وأقامَ في الدَّارِ مَأدُبَةً، وهي كلُّ طَعامٍ عامٍّ يُدعَى النَّاسُ إليه، كالوَليمةِ، وبَعَث داعيًا من عندِه يَدعو النَّاسَ إليها، فمَن أجاب الدَّاعيَ دخَل الدَّارَ وأكَلَ مِنَ المَأدُبةِ، ومَن لم يُجِبِ الدَّاعيَ لم يَدخُلِ الدَّارَ ولم يَأكُل مِنَ المَأدُبةِ، فقالوا: «أَوِّلُوها»، أي: فَسِّروا هذه الحكايةَ التَّمثيليَّةَ لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «يَفْقَهْهَا»، أي: ليَفهَمَها، «فقال بعضُهم: إنَّه نائمٌ، وقال بعضُهم: إنَّ العينَ نائمةٌ، والقلْبَ يَقظانُ» وكرَّرُوا هذا؛ لِتَنبيه السَّامعينَ إلى هذه المَنقبةِ العَظيمةِ لدى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهي نومُ العَينِ ويَقَظةُ القلبِ، «فقالوا: فالدَّارُ» المُمَثَّلُ بها هي «الجَنَّةُ»، واللهُ سُبحانَه هو خالقُ الجَنَّةِ وبانيها، «والدَّاعي» للنَّاسِ المُرسَلُ بالدَّعوةِ إليها هو «مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»، «فمَن أطاعَ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقدْ أطاع اللهَ»؛ لأنَّه رَسولُ صاحِبِ المَأدُبةِ، فمَن أجابَه ودخَل في دَعوتِه أكَل مِنَ المَأدُبةِ، وهو كِنايةٌ عن دُخولِ الجنَّةِ، وقولُهم: «ومحمَّدٌ فَرْقٌ بيْن النَّاسِ»، أي: هو الفارقُ بين المؤمنِ والكافرِ، والصَّالحِ والطَّالحِ؛ إذ به تَميَّزَتِ الأعمالُ والعُمَّالُ، وهذا كالتَّذييلِ للكلامِ السَّابقِ؛ لأنَّه مُشتمِلٌ على معناه ومُؤكِّدٌ له.
وفي الحديثِ: إيقاظٌ للسَّامعينَ من رَقدَةِ الغفلةِ وسِنَةِ الجَهالةِ، وحَثٌّ لهم على الاعتِصامِ بالكتابِ والسُّنَّةِ، والإعراضِ عمَّا يُخالِفُهما مِنَ البِدعةِ والضَّلالةِ.
وفيه: بيانُ عِظمِ مكانةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عندَ ربِّه سُبحانَه وعندَ الملائكةِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ ضَربِ الأمثالِ لِتَوضيحِ المَعاني الغامِضةِ في الدِّينِ.