باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم
بطاقات دعوية
عن ابن عباس:
أن نفرا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مروا بماء فيهم لديغ، أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق؟ إن في الماء رجلا لديغا، أو سليما، فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا، حتى قدموا المدينة فقالوا:
يا رسول الله: أخذ على كتاب الله أجرا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله".
كان الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم يَحرِصون على أخْذِ رَأيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في كلِّ ما يَستجِدُّ مِن أُمورِهم، حتَّى ولو كان عمَلًا صالحًا في ظاهرِه، حتَّى يُقِرَّه أو يَنْهى عنه.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أبو سَعيدٍ الخُدْريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ جَماعةً مِن الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم انْطَلَقوا في أحَدِ أسفارِهم، وكان معَهم أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رَضيَ اللهُ عنه، كما في الصَّحيحَينِ، فمَرُّوا أثناءَ سَفَرِهم على قَبيلةٍ، فسَأَلُوهم الضِّيافةَ المُعتادةَ، فامتَنَعوا مِن ضِيافتِهم، فبيْنما همْ في دِيارِهم، إذا برَئيسِ القَبيلةِ تَلسَعُه عَقْرَبٌ فتَسمَّمَ جِسمُه، واشتَدَّتْ عليه آلامُه، فسَعَت جَماعتُه في عِلاجِه وتَطْبِيبِه، فلم يُفلِحْ عِلاجُهم معه، فقال أحدُهم: «لو أَتَيْتُمْ هؤلاءِ الرَّهْطَ الَّذينَ نَزَلُوا» يَقصِدُ بذلك الصَّحابةَ رَضيَ اللهُ عنهم -والرَّهطُ: الجَماعةُ مِن الرِّجالِ ما دُونَ العَشرةِ، وقيلَ: ما دُونَ الأَربعينَ- لعلَّ عندَهم شَيءٌ يَنفَعُ في العِلاجِ، فأخْبَرَهم أحدُ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم أنَّه سيُعالِجُه بالرُّقيةِ، بشَرْطِ أنْ يُعْطوهم أُجرةً على عِلاجِه؛ وذلك لمَنْعِهم ضِيافتَهم لهم، فاتَّفَقُوا معه على قَطيعٍ مِن الغَنَمِ يُدفَعُ إليهم مُقابلَ عِلاجِهم لمَريضِهم، وفي رِوايةٍ للبُخاريِّ: «ثلاثينَ شاةً»، فذهَبَ معهم إلى المريضِ، وأخَذَ يَتْفِلُ عليه مِن رِيقِهِ وهو يَقرَأُ فاتحةَ الكِتابِ، قال أبو سَعيدٍ الخُدْريُّ رَضيَ اللهُ عنه: «فَكَأنَّما نُشِطَ مِن عِقَالٍ»، أي: انقطَعَتْ آلامُه فَورًا كأنَّما كان مَربوطًا بحَبْلٍ وأُطلِقَ منه، فانطَلَقَ يَمْشي وما به قَلَبَةٌ، أي: داءٌ وعِلَّةٌ؛ سُمِّيَ به لأنَّ صاحبَه يُقلَبُ مِن أجْلِه؛ ليُعلَمَ مَوضِعُ الدَّاءِ مِنه، فأَعطَوْهم القَطيعَ مِن الغَنمِ الَّذي تَعاقَدوا معهم عليه، فقال بعضُ الصَّحابةِ: نَقسِمُ هذا القطيعَ بيْننا، ونَأكُلُه، فنَهاهمُ الرجُلُ الَّذي رَقَى المَريضَ -وهو أبو سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه، كما في مُسنَدِ أحمَدَ- حتَّى يَصِلوا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويُخبِروه بقِصَّتِهم، فلمَّا جاؤوا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحَكَوا له ما حَدَثَ لهمْ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للرَّاقي: ما يُدْريكَ أنَّ الفاتحةَ رُقيةٌ عَظيمةٌ، وشِفاءٌ مِن الأَدْواءِ والأَسْقامِ؟ وكان جَوابُ أبي سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه -كما في رِوايةِ أحمَدَ في المسنَدِ-: «أُلْقِيَ في رُوعي»، أي: فِراسةٌ وإلهامٌ مِن اللهِ تعالَى، وعَمِلْتُ بمُقتضاهُ، وهذا تَوفيقٌ مِن اللهِ تعالَى. ثمَّ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قد أَصبتُم ووُفِّقْتُم فيما أُلْهِمتُم به، وفي عِلاجِكم لهذا الرَّجلِ اللَّديغِ؛ حيث كُنتُم سَببًا في نَجاتِه، ثمَّ أمَرَهم أنْ يَقسِموا تلك الأغنامَ، وشارَكَهم فيها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، تَطْييبًا لقُلوبِهم؛ لِيَعلَموا أنَّه خالٍ مِن كلِّ شُبْهةٍ.
وفي الحديثِ: الرُّقيةُ بِشَيْءٍ مِن كِتابِ اللهِ تعالَى، وأنَّ سُورةَ الفاتِحَةِ فيها شِفَاءٌ؛ ولِهَذا مِن أسمائِها (الشَّافيةُ).
وفيه: دَليلٌ على أنَّ القرآنَ وإنْ كان كلُّه مَرجُوَّ البَرَكةِ، ففيه ما يَختَصُّ بالرُّقيةِ دونَ جَميعِه.
وفيه: أخْذُ الأُجرَةِ على الرُّقيةِ.
وفيه: تَورُّعُ الصَّحابةِ عن أخْذِ شَيءٍ قبْلَ مَعرِفةِ الحكْمِ الشَّرعيِّ فيه.