باب التوبة 7
بطاقات دعوية
وَعَنْ أبي نُجَيد - بضَمِّ النُّونِ وفتحِ الجيم - عِمْرَانَ بنِ الحُصَيْنِ الخُزَاعِيِّ رضي الله عنهما: أنَّ امْرَأةً مِنْ جُهَيْنَةَ أتَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى، فقالتْ: يَا رسولَ الله، أصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - وَليَّها، فقالَ: «أَحْسِنْ (1) إِلَيْهَا، فإذا وَضَعَتْ فَأْتِني» فَفَعَلَ فَأَمَرَ بهَا نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا. فقالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا رَسُول الله وَقَدْ زَنَتْ؟ قَالَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ أَفضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بنفْسِها لله - عز وجل؟!». رواه مسلم. (2)
الزنا من أعظم الآثام التي يرتكبها الإنسان، وهو من كبائر الذنوب في الإسلام؛ حيث شدد الله عقوبتها في الدنيا والآخرة
وفي هذا الحديث يروي بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا رسول الله، طهرني» من الذنب بإقامة الحد علي، وظن النبي صلى الله عليه وسلم أن ماعزا فعل ذنبا لا يكون معه حد أو عقوبة دنيوية، ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: «ويحك!» وهي كلمة تقال عند التفجع أو التوجع من شر وقع، ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع وأن يستغفر الله ويتوب إليه، فرجع ماعز عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم رجوعا لم يبتعد فيه، ثم عاود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورجع مرة أخرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قال له في المرة الأولى، وكرر النبي صلى الله عليه وسلم عليه قوله، حتى إذا كانت المرة الرابعة من قول ماعز: طهرني يا رسول الله، سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذنبه، فقال له ماعز رضي الله عنه: «من الزنا»، أي: إني قد ارتكبت فاحشة الزنا، فطهرني بإقامة الحد علي، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده من قوم ماعز، وفي رواية لمسلم: أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى قومه يسألهم: أبماعز جنون ونقص عقل؟ فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ماعزا ليس بمجنون؛ فهو كامل العقل، وفي رواية في صحيح مسلم أنهم قالوا: «ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا، فيما نرى»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم متسائلا: «أشرب خمرا؟» أي: مسكرا فأذهب عقله وغيبه؟ فقام رجل من الحاضرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشم رائحة فم ماعز؛ ليتأكد هل شرب خمرا أم لا؟ فلم يجد الرجل من فم ماعز ريح خمر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لماعز: «أزنيت؟» أي: هل زنيت حقا؟ فأكد له ماعز وقوعه في الفاحشة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه والحاضرين برجم ماعز حتى الموت، فتلك عقوبة الزاني المحصن، وهو الذي قد سبق له الزواج، فرجمه الصحابة بالحجارة
وأخبر بريدة رضي الله عنه أن الناس انقسموا في مصير ماعز بعد إقامة الحد عليه إلى فريقين؛ فالفريق الأول يقول: «لقد هلك» ماعز بارتكابه الكبيرة، «لقد أحاطت به خطيئته» أي: إنه ما زال معاقبا على الزنا يوم القيامة حتى بعد قيام الحد عليه، والفريق الآخر يقول: ليس هناك توبة أفضل من توبة ماعز؛ وذلك أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يده في يد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال ماعز للنبي صلى الله عليه وسلم: «اقتلني بالحجارة»؛ حتى تطهرني من ذنبي
وأخبر بريدة رضي الله عنه أن الناس بقوا متلبسين بذلك الافتراق والاختلاف في شأن ماعز ومصيره، وبقوا على ذلك يومين أو ثلاثة أيام، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء إلى مجلس القوم بعد تلك المدة، فسلم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، ثم جلس معهم، وأمرهم بطلب المغفرة لماعز رضي الله عنه، فدعا القوم الله عز وجل بالمغفرة لماعز، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد تاب» ماعز بن مالك إلى الله تعالى «توبة لو قسمت» ووزع ثوابها بين «أمة»، أي: جماعة من الناس، لكفتهم سعة
ثم أخبر بريدة رضي الله عنه أن امرأة جاءت بعد رجم ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة من «غامد» من جهينة، «من الأزد»، والأزد قبيلة كبيرة من العرب، فغامد قبيلة من جهينة، وجهينة من الأزد، فقالت المرأة الغامدية: يا رسول الله، «طهرني» من ذنبي بإقامة الحد علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك!» ثم أمرها بالذي أمر به ماعزا رضي الله عنه، فقال لها: «ارجعي فاستغفري الله» من ذنبك، «وتوبي إليه»، فقالت المرأة الغامدية: أظن -يا رسول الله- أنك «تريد أن ترددني»، كما رددت ورجعت ماعز بن مالك» فسألها النبي صلى الله عليه وسلم عن ذنبها، فذكرت له أنها «حبلى»، أي: حامل، بسبب وقوعها في الزنا، فراجعها النبي صلى الله عليه وسلم في إقرارها على نفسها، فقالت: «نعم»، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن ترجع حتى تلد ما في بطنها وتأتي بالولد
وأخبر بريدة أنه تكفل بمؤنتها وقام بمصالحها «رجل من الأنصار» وهم أهل المدينة، فلما وضعت ولدها، جاء الأنصاري فأبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بخبر المرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذن لا نرجمها» ونترك ولدها بلا مرضع ولا حاضن له، فقام رجل من الأنصار، فقال ذلك الرجل -وهو غير الأول-: «إلي رضاعه» أي: موكول إلي مؤنته وتربيته يا نبي الله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها، وظاهره أن المرأة كانت محصنة أيضا، ولذلك رجمها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي رواية أخرى عند مسلم: أنها لما ولدت أتته بالصبي في خرقة، وهي القطعة من القماش، فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تذهب به حتى ترضعه إلى الفطام، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، دليل على الفطام، وأكله للطعام، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها، فحفر لها في الأرض إلى عمق يصل فيه إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فرماها خالد بن الوليد رضي الله عنه بحجر، فجاء في رأسها، فجاء الدم على وجه خالد، فسبها وشتمها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال: «مهلا يا خالد» أي: ترفق، «فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس» والمكس: الجباية، وغلب استعماله فيما يأخذه أعوان الظلمة عند البيع والشراء، «لغفر له» مع أن المكس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات؛ وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده، وتكرر ذلك منه، وانتهاكه للناس، وأخذ أموالهم بغير حقها، وصرفها في غير وجهها. ثم أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليها، ودفنت
وفي الحديث: بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من تكافل ورحمة، حتى مع العصاة
وفيه: الحث على السعي في تطهير النفس من الذنوب في الدنيا؛ لعتقها من النار في الآخرة
وفيه: أن خير التوبة إلى الله هي التوبة الصادقة التي لا يخشى فيها أحد إلا الله عز وجل
وفيه: أن من ثبوت الحد الإقرار به
وفيه: منقبة عظيمة لماعز بن مالك والمرأة الغامدية رضي الله عنهما