باب التوبة 6
بطاقات دعوية
وعن أبي سَعيد سَعْدِ بنِ مالكِ بنِ سِنَانٍ الخدريِّ - رضي الله عنه: أنّ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أعْلَمِ أَهْلِ الأرضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ. فقال: إنَّهُ قَتَلَ تِسعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلهُ فَكَمَّلَ بهِ مئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ. فقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ، ومَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلى أرضِ كَذَا وكَذَا فإِنَّ بِهَا أُناسًا يَعْبُدُونَ الله تَعَالَى فاعْبُدِ الله مَعَهُمْ، ولَا تَرْجِعْ إِلى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أرضُ سُوءٍ، فانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذَابِ. فَقَالتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا، مُقْبِلًا بِقَلبِهِ إِلى اللهِ تَعَالَى، وقالتْ مَلائِكَةُ العَذَابِ: إنَّهُ لمْ يَعْمَلْ خَيرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ في صورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ - أيْ حَكَمًا - فقالَ: قِيسُوا ما بينَ الأرضَينِ فَإلَى أيّتهما كَانَ أدنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوا فَوَجَدُوهُ أدْنى إِلى الأرْضِ التي أرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحمةِ». مُتَّفَقٌ عليه. (1)
وفي رواية في الصحيح: «فَكَانَ إلى القَريَةِ الصَّالِحَةِ أقْرَبَ بِشِبْرٍ فَجُعِلَ مِنْ أهلِهَا».
وفي رواية في الصحيح: «فَأَوحَى الله تَعَالَى إِلى هذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، وإِلَى هذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وقَالَ: قِيسُوا مَا بيْنَهُما، فَوَجَدُوهُ إِلى هذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ». وفي رواية: «فَنَأى بصَدْرِهِ نَحْوَهَا».
رحمة الله وسعت كل شيء، ومن رحمته أنه فتح باب التوبة لعباده بالليل والنهار، وحرم القنوط واليأس من رحمته
وفي هذا الحديث يخبر صلى الله عليه وسلم أن رجلا من بني إسرائيل كان قد قتل تسعا وتسعين إنسانا بغير حق، فأراد التوبة، فجاء إلى راهب، أي: عابد من النصارى -وفي ذلك إشعار بأن ذلك وقع بعد رفع عيسى عليه السلام؛ فإن الرهبانية إنما ابتدعها أتباعه- فسأله عن التوبة، فقال له: ليس لك توبة، وقد وقع هذا الراهب في خطأين: الأول: أنه ضيق رحمة الله، والثاني: أنه أفتى بغير علم. فقتله الرجل وأكمل بقتله المئة نفس
فلم ييئس، بل جعل يسأل مرة أخرى، إلى أن جاء إلى عالم من العلماء، فسأله عن التوبة، فقال له العالم: لا يمنعك من التوبة شيء، وأمره أن يذهب إلى قرية معينة، يعبد فيها الله عز وجل، وكانت قريته قرية سوء، فمات الرجل في طريقه، ومن رحمة الله عز وجل به أنه عندما حضرته الوفاة ناء بصدره، أي: مال بصدره مقتربا من القرية الصالحة التي توجه إليها للتوبة، ومبتعدا عن قرية السوء التي خرج منها
فلما مات تخاصمت فيه -أي: تنازعت- ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وزاد في رواية مسلم: أن ملائكة العذاب قالت: إنه لم يفعل خيرا قط، وملائكة الرحمة قالت: إنه أقبل على الله تائبا، فحكموا بينهما واحدا، وهو ملك أرسله الله عز وجل إليهم في صورة آدمي، فقال لهم: قيسوا بين الأرضين؛ القرية التي خرج منها، والقرية التي كان ذاهبا إليها؛ فإن كان أقرب للتي خرج منها أخذته ملائكة العذاب، وإن كان أقرب للقرية التي كان ذاهبا إليها أخذته ملائكة الرحمة. فأوحى الله إلى أرض القرية التي كان ذاهبا إليها: أن تقربي، فتقاربت، وأوحى إلى الأخرى: أن تباعدي، فتباعدت، وهذا من سعة رحمة الله عز وجل بعباده، فوجدوه أقرب إلى القرية التي كان ذاهبا إليها بشبر واحد فقط، فأخذته ملائكة الرحمة، ولا يعارض هذا بما هو مقرر من أن حقوق العباد لا تسقط إلا باستيفائها؛ فالله تعالى إذا رضي عن المذنب وقبل توبته، يرضي عنه خصمه
وفي الحديث: حث المذنبين على التوبة، ومنعهم من اليأس من رحمة الله تعالى
وفيه: بيان فضل العالم على العابد
وفيه: أن من أعظم أسباب المعصية الصحبة السيئة وخلطة أهل السوء، وأن من أعظم أسباب الطاعة صحبة المطيعين وخلطتهم
وفيه: سعة فضل الله تعالى وعظيم رحمته بالتائب