باب التوقي في الحديث عن رسول اللهﷺ 6
سنن ابن ماجه
حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا حماد بن زيد، عن مجالد، عن الشعبي، عن قرظة بن كعب، قال:
بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة وشيعنا، فمشى معنا إلى موضع يقال له: صرار، فقال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قال: قلنا: لحق صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحق الأنصار. قال: لكني مشيت معكم لحديث أردت أن أحدثكم به، فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم، إنكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز المرجل، فإذا رأوكم مدوا إليكم أعناقهم، وقالوا: أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنا شريككم (1).
على الإمامِ ووليِّ الأمرِ أنْ يُوجِّهَ أهلَ العِلمِ في دَعوتِهم للناسِ بأنْ يَعملوا بما يَنفعُهم ويَحتاجُونَه أكثرَ مِن غيرِه، وقد ضرَبَ أميرُ المؤمنِينَ عُمرُ بنُ الخَطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه أروعَ الأمثلةِ في ذلك، كما يقولُ قَرَظَةُ بنُ كعْبٍ رضِيَ اللهُ عنه في هذا الحديثِ: "بعثَنَا عمَرُ بنُ الخطَّابِ إلى الكُوفةِ"، هي المدينةُ المشهورةُ بالعراقِ؛ وكان ذلك لِيُقرئُوا النَّاسَ القُرآنَ، ويُفقِّهوهم في الدِّينِ، "وشيَّعَنا"، أي: خرَجَ معنا للتَّوديعِ، "فمشى" عمَرُ رضِيَ اللهُ عنه، "معنا إلى موضِعٍ، يُقال له: صِرارٌ" وهو موضِعٌ بقُرْبِ المدينةِ على بُعد حوالي (5كم) من المدينةِ على طَريقِ العراقِ منها، وهو ماءٌ مُحْتفَرٌ، جاهليٌّ، على طريقِ العراقِ، وقيل: هو بناءٌ مُرتفِعٌ لِبَنِي عبدِ الأشهَلِ، "فقال لهم عمَرُ: أتدرونَ"، أي: أتعلمونَ، "لِمَ مَشَيْتُ معكم؟ "قُلْنا"، أي: قال المبعوثونَ إلى الكوفةِ: "لِحَقِّ صُحبةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولِحَقِّ الأنصارِ" وهم جماعةُ أهْلِ المدينةِ مِن الصَّحابةِ الَّذين نَصَروا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمعنى: أنَّك مَشَيْتَ معنا أيضًا للحقِّ الَّذي جعَلَه اللهُ تعالى للأنصارِ؛ مِن وُجوبِ احترامِهم، والقيامِ بمُهِمَّاتِهم؛ لِنَصْرِهمُ الإسلامَ، وإيوائِهم أهْلَه؛ فلهم بذلك حقٌّ على كلِّ مُسلِمٍ.
قال عمَرُ رضِيَ اللهُ عنه: "لكنِّي" وهو استدراكٌ مِن مُقَدَّرٍ، أي: هذا الَّذي ذكَرْتُموه، وإنْ كان ممَّا يُمْشَى مِن أجْلِه، لكنَّه الآن ليس هو وحدَه حاملًا لِمَشْيِي معكم، وإنَّما "مَشَيْتُ معكم لحديثٍ"، أي: لأجْلِ بيانِ حديثٍ "أرَدْتُ أنْ أُحَدِّثَكم به، وأرَدْتُ أنْ تحفَظُوه لِمَمْشَايَ معكم"، أي: إنَّما مَشَيْتُ معكم؛ ليكونَ مَمْشَايَ هذا حاملًا لكم، وباعثًا إيَّاكم على أنْ تحفَظُوا ما أُحَدِّثُكم به؛ لأنَّهم إذا تذكَّروا مَشْيَه معهم مكانًا بعيدًا، مع كِبَرِ سِنِّه، ووجاهَتِه، وكونِه خليفةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حمَلَهم ذلك كلُّه على أنْ يعْتَنوا بحفْظِ ما يُحَدِّثُهم به، والعمَلِ بمُقْتَضاه، ثمَّ بيَّنَ الحديثَ الَّذي يُرِيدُ أنْ يُحَدِّثَهم به، بقولِه: "إنَّكم تَقْدَمونَ"، أي: تأتون "على قومٍ للقُرآنِ في صُدورِهم هَزِيزٌ كهَزِيزِ المِرْجَلِ"، والهَزِيزُ: هو صوتُ غَلَيَانِ القِدْرِ، وتردُّدُ صوتِ الرَّعدِ. وفي روايةٍ
"قال: إنَّكم تأتونَ أهْلَ قريةٍ لهم دَوِيٌّ بالقُرآنِ كدَوِيِّ النَّحلِ".
قال: "فإذا رَأَوْكم مَدُّوا إليكم أعناقَهم"، أي: للأخْذِ عنكم، وتَسليمًا للأمْرِ إليكم، وتَحكيمًا لكم، "وقالوا: أصحابُ محمَّدٍ"، أي: هؤلاءِ أصحابُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو: جاء أصحابُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ تقديمًا لهم، ورِفْعةً لعُلُوِّ مَنقبَتِهم، "فأقِلُّوا الرِّوايةَ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، أي: لا تُكْثِروا رِوايةَ أحاديثِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهم؛ لئلَّا يُشغَلُوا بذلك عن قِراءةِ القُرآنِ، وهذا هو الَّذي يُؤَيِّدُه السِّياقُ، حيث إنَّ عمَرَ رضِيَ اللهُ عنه قال لهم: "إنَّكم تَقْدَمونَ على قومٍ للقُرآنِ في صُدورِهم هَزِيزٌ... إلخ"، فإنَّه يدلُّ على أنَّ أمْرَه لهم بالإقلالِ مِن الرِّوايةِ؛ لئلا يَشْغَلَهم كثْرَةُ الحديثِ عن قِراءةِ القُرآنِ. وقيل: المعنى افْعَلُوا هذا نظَرًا إلى كثْرَةِ طلَبِهم، وشَوقِهم في الأخذِ عنكم؛ تعظيمًا لأمْرِ الرِّوايةِ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وقولُه: "وأنا شَريكُكم"، أي: في الأجْرِ؛ بسبَبِ أنَّه الدَّالُّ لهم على الخيرِ، والباعِثُ لهم عليه؛ لأنَّ الدَّالَّ على الخيرِ كفاعِلِه. وقد فُهِمَ مِن هذا الحديثِ: أنَّ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه إنَّما أَوْصى أصحابَه بالكَفِّ والتَّوقِّي عن قولِ الحديثِ عندَ أهْلِ الكوفةِ؛ وأنَّه لا يَغُرُّهم تقديمُ أهْلِ الكوفةِ لهم، فيحْمِلُهم هذا على الإكثارِ مِن الرِّوايةِ.
وفي الحديثِ: الحثُّ على الإقلالِ مِن الرِّوايةِ؛ خوفًا مِن الاشتِغالِ به عنِ القُرآنِ، لا خوفًا مِن الزِّيادةِ والنُّقصانِ.
وفيه: بيانُ تواضُعِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه، حيث خرَجَ بنفْسِه ليُودِّعَ أهْلَ العلْمِ؛ إذ خَرَجوا لنشْرِ علْمِهم، وتفقيهِ الأُمَّةِ، ودَعوتِها إلى السُّنَّةِ المُطهَّرةِ.
وفيه: الحثُّ على مُلازمةِ القُرآنِ، وعدَمِ الاشتِغالِ بغيرِه، وهذا إذا كان يَخْشى أنْ يَنْساه.