باب التوقي في الحديث عن رسول الله ﷺ 5
سنن ابن ماجه
حدثنا العباس بن عبد العظيم العنبري، حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال:
سمعت ابن عباس يقول: إنا كنا نحفظ الحديث، والحديث يحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما إذا ركبتم الصعب والذلول، فهيهات (2).
كان الصَّحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم يحفَظونَ حديثَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومَن حضَرَ يُبَلِّغُ الغائبَ بما سمِعَ ورأى، دونَ زيادةٍ ولا نقْصٍ، وكانوا صادقينَ في كلِّ أحوالِهم، ثمَّ بعدَ ذلك جاء النَّاسُ وجمَعوا ما تفرَّقَ مِن سُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولكنَّ البعضَ كان يجمَعُ كحاطِبِ ليلٍ دونَ تمييزٍ، وهذا الأثَرُ عن ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما يوضِّحُ ذلك، وهو جزْءٌ مِن حديثٍ طويلٍ، وفيه: أنَّ التَّابعيَّ بُشَيْرَ بنَ كعْبٍ العَدَويَّ جاء إلى ابنِ عبَّاسٍ، "فجعَلَ يُحدِّثُ ويقولُ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، أي: وأخَذَ بُشَيْرٌ يُكْثِرُ مِن الحديثِ عن رسولِ اللهِ؛ لِيُسْمِعَ ابنَ عبَّاسٍ، "فجعَلَ ابنُ عبَّاسٍ لا يأْذَنُ لِحَديثِه ولا ينظُرُ إليه"، أي: لا يسمَعُ ولا يُصْغِي، ولا ينظُرُ إلى بُشَيْرٍ؛ استهجانًا لجُرأَتِه على كثرةِ الحديثِ، "فقال بُشَيْرٌ: يا ابنَ عبَّاسٍ، ما لي لا أراك تسمَعُ لِحَديثي؟ أُحَدِّثُك عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولا تسمَعُ؟!" فهذا استفسارٌ مِن بُشَيْرٍ لابنِ عبَّاسٍ لماذا لا يسمَعُ تحديثَه عن رسولِ اللهِ؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ: "إنَّما كُنَّا نحفَظُ الحديثَ، والحديثُ يُحْفَظُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، أي: كُنَّا نأخُذُ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ونحفَظُه، وحديثُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جديرٌ وحقيقٌ بأنْ يُحْفَظَ، وفي روايةٍ: "إنَّا كُنَّا إذا سمِعْنا رجُلًا يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ابتدَرَتْه أبصارُنا، وأَصْغَينا إليه بآذانِنا"، أي: كُنَّا- أصحابَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- إذا سمِعْنا صحابيًّا يُحَدِّثُ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تسابَقْنا إليه وأسرَعْنا؛ لِنَسْمَعَه ونعرِفَ ما عنده؛ لأنَّهم كانوا يعرِفونَ السُّنَنَ، ويُنْزِلونَها منازِلَها، ويُؤَدُّونَها في وقتِها المُناسِبِ، ولا يكذِبونَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بل يقولونَ ما سَمِعوه منه أو ما عَلِموه، حقًّا لا تخمينًا، وكذلك ظلَّ الأمْرُ في التَّابعينَ قبْلَ ظُهورِ الكذِبِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعدَ الصَّحابةِ، وبعدَ ظُهورِ الفِتَنِ.
ثم قال ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: "فأمَّا إذا رَكِبْتم الصَّعبَ والذَّلولَ؛ فَهَيْهَاتَ"، والصَّعبُ والذَّلولُ في الإبِلِ؛ فالصَّعبُ: العَسِرُ المرغوبُ عنه، والذَّلولُ: السَّهْلُ الطَّيِّبُ المرغوبُ فيه، والمُرادُ: أنَّ النَّاسَ سلَكَت كلَّ مسلَكٍ ممَّا يُحْمَدُ ويُذَمُّ؛ للقولِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والتَّحديثِ عنه، "فَهَيْهَاتَ"، أي: فيبْعُدُ أنْ نأخُذَ منكم، وفي روايةٍ: "لم نأخُذْ مِن النَّاسِ إلَّا ما نعرِفُ"، أي: توقَّفْنا عنِ الأخْذِ مِن كلِّ مُحدِّثٍ إلَّا بما نعْلَمُه مِن أقوالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسُنَنِه، وهذا مع بيانِهم للحقِّ، وعدَمِ سُكوتِهم على الكذِبِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهكذا رسَمَ ابنُ عبَّاسٍ الطَّريقَ الحقَّ في التَّثبُّتِ والتَّأكُّدِ مِن المرويَّاتِ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.