باب الرجل عنده الشهادة لا يعلم بها صاحبها
سنن ابن ماجه
حدثنا علي بن محمد، ومحمد بن عبد الرحمن الجعفي، قالا: حدثنا زيد بن الحباب العكلي، أخبرني أبي بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي، حدثني أبو بكر بن عمرو بن حزم، أخبرني محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، حدثني خارجة بن زيد بن ثابت، أخبرني عبد الرحمن ابن أبي عمرة الأنصاريأنه سمع زيد بن خالد الجهني يقول: إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خير الشهود من أدى شهادته قبل أن يسألها" (1).
أمَرَنا اللهُ سُبحانه بأداءِ الشَّهاداتِ إلى أهْلِها، وهذا بِرٌّ وخَيرٌ، وقيامٌ بحَقِّ الأُخوَّةِ في الإسلامِ، فمَن بادَرَ إلى أداءِ الشَّهادةِ بحقٍّ، فله الفضلُ على غَيرِه، ممَّن لم يُبادِرْ بها؛ لأنَّه بذلكَ أثبَتَ الحقوقَ لِأهلِها، وفرَّجَ كَرْبًا عن مُسْلمٍ، وأدخَلَ السُّرورَ عليه.
وفي هذا الحديثِ يُشوِّقُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه، فيَسْألُهم: «ألَا أُخبِرُكم بِخَيْرِ الشُّهَداءِ؟» أي: أفضلِ الشُّهودِ وأكمَلِهم في رُتبةِ الشَّهادةِ، وأكثَرِهم ثَوابًا عندَ اللهِ تعالَى، ثمَّ يُجِيبُ: «الَّذِي يأتِي بِشَهادتِه»، أي: يَحْمِلُها لِيُؤَدِّيَها قَبْلَ أن تُطلَبَ مِنه هذه الشَّهادَةُ. قيل: المرادُ بالشَّهادةِ الَّتي يَجِبُ أداؤها ولم تُطلَبْ منه: هي الشَّهادةُ بحَقٍّ لم يَحضُرْ مُستحِقُّه أو بشَيءٍ يَخافُ ضَياعُه أو فَوتُه، وقيل: المرادُ مَن عِندَه شَهادَةٌ لإنسانٍ لا يَعْلَمُها، فيُخبِرُه أنَّه شاهِدٌ. وقيل: المرادُ شاهِدُ الحِسْبةِ فيما يُقبَلُ فيه، وقيل: المرادُ المُبالَغَةُ في أَداءِ الشَّهادَةِ بعدَ طَلَبِها.
ولا يُعارَضُ هذا الحديثُ بما وَرَد في الأحاديثِ مِن ذَمِّ مَن يَشهَدُ دونَ أنْ تُطلَبَ شَهادتُه، كما في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الحديثِ المتَّفَقِ عليه: «ثُمَّ يَكونُ بَعْدَهم قَومٌ يَشهَدُونَ ولا يُستَشهَدُونَ»، والجمعُ بيْنهما إمَّا بأنْ يُحمَلَ الذَّمُّ على مَن بادَرَ بالشَّهادةِ في حقِّ مَن هو عالِمٌ بها قبْلَ أنْ يَسأَلَها صاحبُها، ويكونُ المدْحُ لمَن كانت عندَه شَهادةٌ لأحدٍ لا يَعلَمُ بها، فيُخبِرُه لِيَستشهَدَ به عندَ القاضي، أو يُحمَلَ الذَّمُّ على الشَّهادةِ الباطلةِ الَّتي هي شَهادةُ الزُّورِ، أمَّا المبادَرةُ إلى الشَّهادةِ الصَّحيحةِ مِن أجْلِ إظهارِ الحقِّ، وإعانةِ المظلومِ، ودفْعِ الظُّلمِ عنه؛ فإنَّها عمَلٌ صالحٌ يُؤجَرُ ويُثابُ عليه صاحبُه.
وفي الحديثِ: فَضْلُ الشَّهادةِ بالحقِّ وعِظَمُ قَدْرِها.