باب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم3
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا سفيان، عن بشير أبي إسماعيل، عن سيار، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل»: «هذا حديث حسن صحيح غريب»
حثَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أُمَّتَه على ألَّا يغتَرُّوا بما يُفتَحُ عليهم مِن زُخرُفِ الدُّنيا، ومستَلَذَّاتِها، حتَّى يَكونوا راغِبين في النَّعيمِ الباقي، وهو نَعيمُ الجنَّةِ، وأن يكونَ زادُهم مِن الدُّنيا ما يُبلِّغُهم الآخرةَ بسَلامٍ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ التَّابعيُّ سَمُرةُ بنُ سهمٍ القرشيُّ الأسديُّ: "نَزَلْتُ على أبي هاشِمِ بنِ عُتبةَ"، وهو ممَّن أسلَم يومَ الفتحِ، وسكَنَ الشَّامَ، وكان خالَ مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ، "وهو طَعينٌ"، أي: أصابَه مرَضُ الطَّاعونِ، وهو نوعٌ مِن الأوبئَةِ، "فأتاه مُعاويةُ" بنُ أبي سُفيانَ رضي الله تعالى عنهما، "يَعودُه"، أي: يزورُه في مرَضِه، "فبكى أبو هاشِمٍ، فقال مُعاويةُ: ما يُبكيكَ؟"، والمعنى: أيُّ شيءٍ يحمِلُك على البُكاءِ؟ "أوجَعٌ يُشْئزُك"، أي: يُصيبُك بالقلَقِ والخوْفِ، "أم على الدُّنيا؟"، أي: أم تَبكي على فِراقِ نِعَمِ الدُّنيا؟ "فقَد ذهَب صَفْوُها"، أي: حُلْوُها فلا يَنبَغي البُكاءُ، والتَّحسُّرُ عليها؛ لأنَّ صفْوَها زال، ولم يبْقَ إلَّا الكدَرُ، قال أبو هاشِمٍ رَضي اللهُ عنه: "كلٌّ لا"، أي: كلُّ ما ذكَرْتَه ليس سببًا لبُكائي؛ فلا هو يَبكي لشدَّةِ المرَضِ، ولا للحُزنِ على مُفارقَةِ الدُّنيا، وإنَّما يَبكي لأمرٍ آخرَ، وهو ما ذكَرَه بقولِه: "ولكنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عهِدَ إليَّ عهْدًا"، أي: أوْصاني بوصيَّةٍ "وَدِدتُ"، أي: أحبَبْتُ "أنِّي كنتُ تَبِعْتُه"، أي: عَمِلتُ بها واستَقَمتُ عليها، وفي روايةِ التِّرمذيِّ: "ولكنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عهِدَ إلَيَّ عهْدًا لم آخُذْ به"، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "إنَّه لعلَّك تُدرِكُ أموالًا"، أي: مِن الغَنائمِ الَّتي تُفتَحُ على المسلمين مِن بلادِ الكفَّارِ، أو أموالِ بيتِ المالِ الَّتي تُجمَعُ مِن الغنائمِ وغيرِها، "تُقْسَمُ بينَ أقوامٍ، وإنَّما يَكْفيك مِن ذلك"، أي: مِن تلك القِسمةِ، "خادِمٌ"، أي: يَخدُمُك ويَقومُ على أمرِك، "ومَركَبٌ"، أي: دابَّةٌ تحمِلُك وتركَبُها "فى سبيلِ اللهِ"، أي: في الجِهادِ، أو الحجِّ، أو غيرِ ذلك، والمقصودُ منه القَناعةُ، والاكتِفاءُ بقَدْرِ الكِفايَةِ، ممَّا يَصِحُّ أن يكونَ زادًا للآخرَةِ.
ثمَّ قال أبو هاشِمٍ: "فأدرَكْتُ" ما قاله النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِن الغنائمِ، "فجَمَعتُ" مِن الأموالِ ولم أكتَفِ بالخادِمِ والمركَبِ، ولعلَّ هذا مِن ورَعِ أبي هاشِمٍ وخوْفِه مِن اللهِ؛ فكيف بمَن جمَع مِن الحَرامِ؟!
وفي الحديثِ: التَّرغيبُ في الزُّهدِ في الدُّنيا، والتَّقلُّلِ مِن مَتاعِها.