باب القسامة
بطاقات دعوية
عن [سلمان 5/ 187] أبي رجاء من آل أبي قلابة [وكان معه بالشام 5/ 71]، حدثني أبو قلابة:
أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس، ثم أذن لهم، فدخلوا، فقال: ما تقولون في [هذه] القسامة؟ قالوا: نقول: القسامة القود بها حق، وقد أقادت بها الخلفاء [قبلك، قال: وأبو قلابة خلف سريره 5/ 71] قال لي: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس، فقلت: يا أمير المؤمنين! عندك رؤوس الأجناد، وأشراف العرب، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى؛ لم يروه، أكنت ترجمه؟ قال: لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق أكنت تقطعه؛ ولم يروه؟ قال: لا.
قلت: فو الله ما قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا قط إلا في إحدى ثلاث خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله، وارتد عن الإسلام.
فقال القوم (وفي رواية: فقال عنبسة) (6): أو ليس قد حدث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في السرق، وسمر الأعين، ثم نبذهم في الشمس؟ فقلت: أنا أحدثكم حديث أنس: حدثني أنس:
أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض، فسقمت أجسامهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"أفلا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من ألبانها وأبوالها؟ ".
قالوا: بلى، فخرجوا، فشربوا من ألبانها وأبوالها، فصحوا، فقتلوا راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأطردوا (7) النعم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل في آثارهم، فأدركوا، فجيء بهم، فأمر بهم، فقطعت أيديهم، وأرجلهم، وسمر أعينهم، ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا (8).
قلت: وأي شيء أشد مما صنع هؤلاء؟ ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا، وسرقوا، فقال عنبسة بن سعيد: والله إن سمعت كاليوم قط، فقلت: أترد على حديثي يا عنبسة؟ قال: لا، ولكن جئت بالحديث على وجهه، والله لا يزال هذا الجند بخير ما عاش هذا الشيخ [ومثل هذا 5/ 188] بين أظهرهم.
قلت: وقد كان في هذا سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دخل عليه نفر من الأنصار، فتحدثوا عنده، فخرج رجل منهم بين أيديهم، فقتل، فخرجوا بعده، فإذا هم بصاحبهم يتشحط في الدم (9)، فرجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! صاحبنا كان يتحدث معنا، فخرج بين أيدينا، فإذا نحن به يتشحط في الدم، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بمن تظنون أو ترون قتله؟ ". قالوا: نرى أن اليهود قتلته، فأرسل إلى اليهود فدعاهم، فقال: "آنتم قتلتم هذا؟ ". قالوا: لا، قال: "أترضون نفل (10) خمسين من اليهود ما قتلوه؟ "، فقالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين، ثم ينتفلون! قال: "أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم؟ ". قالوا: ما كنا لنحلف، فوداه من عنده. (*)
قلت (11): وقد كانت هذيل خلعوا خليعا (12) لهم في الجاهلية، فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء، فانتبه له رجل منهم، فحذفه بالسيف فقتله، فجاءت هذيل فأخذوا اليمانى، فرفعوه إلى عمر بالموسم، وقالوا: قتل صاحبنا، فقال: إنهم قد خلعوه، فقال: يقسم خمسون من هذيل ما خلعوه، قال: فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلا، وقدم رجل منهم من الشام، فسألوه أن يقسم، فافتدى يمينه منهم بألف درهم، فأدخلوا مكانه رجلا آخر، فدفعه إلى أخي المقتول: فقرنت يده بيده، قالوا: فانطلقنا والخمسون الذين أقسموا حتى إذا كانوا ب (نخلة) (13) أخذتهم السماء فدخلوا في غار في الجبل، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا فماتوا جميعا، وأفلت القرينان، واتبعهما حجر فكسر رجل أخي المقتول، فعاش حولا، ثم مات.
قلت: وقد كان عبد الملك بن مروان أقاد رجلا بالقسامة، ثم ندم بعد ما صنع، فأمر بالخمسين الذين أقسموا فمحوا من الديوان، وسيرهم إلى الشام.
حرَّم الإسلامُ إراقةَ الدِّماءِ بغَيرِ حَقٍّ شَرعيٍّ، ووضع العُقوباتِ الرَّادِعةَ لكُلِّ من وقع في القَتْلِ المحَرَّمِ، وحَدَّد طُرُقَ إثباتِ أو نفيِ التُّهمةِ عن المتَّهَمينَ، كما حدَّد الدِّيَاتِ ومَقاديرَها في كُلِّ نوعٍ مِن أنواعِ الجُروحِ.
وفي هذا الحَديثِ يروي التابعيُّ أبو قِلابةَ عبدُ اللهِ بنُ زَيدٍ أنَّ عُمَرَ بنَ عَبدِ العَزيزِ في زَمَنِ خِلافتِه أَظْهَرَ سَريرَه -وهو كُرْسِيُّه- الَّذي جَرَت عادةُ الخُلَفاءِ بالاختِصاصِ بالجُلوسِ عليه، فأخرجه إلى ظاهِرِ دارِه يَوْمًا لِلنَّاسِ، ثمَّ أَذِنَ لهم في الدُّخولِ عليه، فَدَخَلوا عليه، فسألهم: ما تَقولونَ في القَسامةِ؟ والقَسامةُ: هي أنْ يُقْسِمَ مِن أولياءِ الدَّمِ خَمْسُونَ نفرًا على استحقاقِهم دَمَ صاحبِهم إذا وَجدُوه قَتيلًا بيْن قومٍ ولم يُعرَفْ قاتلُه، فإنْ لم يَكونوا خَمسين أَقسَمَ الموجودون خَمْسين يَمينًا، ولا يكونُ فيهم صَبٌّي ولا امرأةٌ، ولا مَجْنونٌ ولا عبْدٌ، أو يُقْسِمُ بها المتَّهَمونَ على نَفْيِ القتْلِ عنهم؛ فإنْ حلَفَ المدَّعونَ استَحقُّوا الدِّيةَ، وإنْ حَلفَ المتَّهمونَ لم تَلزَمْهمُ الدِّيةُ.
فأَجابوه: بأنَّ الدِّيَاتِ تُستحَقُّ بالقَسامةِ؛ وذلك حَقٌّ واجِبٌ، وقَد أقادت بِها الخُلَفاءُ، كَمُعاويةَ بنِ أَبي سُفْيانَ، وعَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وعَبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ، فَسَأَلَ عُمَرُ أبا قِلابةَ: ما تَقَول فيها؟ وأبرزه للنَّاسِ لِمُناظَرتِهم، أو لِكَونِه كانَ خَلْفَ السَّريرِ، فَأَمْرَه أن يَظْهَرَ، فأجابه أبو قِلابةَ، فقال: يا أَميرَ المُؤمِنينَ، عِنْدَك رُؤوسُ الأَجْنادِ مِن قادةِ الجُيوشِ، وعندك أَشْرافُ العَرَبِ، ورُؤَساؤُهم ووُجَهاؤهم، فهلْ لَو أنَّ خَمْسينَ مِنهُم -على وجاهَتِهم وحُسْنِ الظَّنِّ بهم- شَهِدوا على رَجُلٍ مُحْصَنٍ متزوِّجٍ بِدِمَشْقَ أنَّه قَدْ زَنى، وهمْ لَم يَرَوْه، أَكُنتَ تَرجُمُه بشَهادتِهم؟ قالَ: لا. ودِمَشْقُ مَدينةٌ في الشَّامِ، وكانت عاصِمةَ الدَّولةِ الأُمَويَّةِ، وهي الآن عاصِمةُ سُوريا.
ثم ضرب أبو قِلابةَ مِثالًا آخَرَ للخَليفةِ، فقال له: أَرَأَيتَ لَو أنَّ خَمْسينَ مِنهُم شَهِدوا على رَجُلٍ بِحِمْصَ أنَّه سَرَقَ أَكُنتَ تَقطَعُه ولَم يَرَوْه؟ قالَ: لا. وحِمْصٌ مدينةٌ ببلادِ الشَّامِ، وهي الآنَ مَدينةُ سُوريَّة، تقع على الضَّفَّةِ الشَّرقيَّةِ لنَهرِ العاصي.
فأقَرَّ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ بأنَّه لا يقضي بأيمانِهم على شيٍء لم يَرَوه. ثم أقسمَ أبو قِلابةَ، فقال: فَواللهِ ما قَتَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أَحدًا قَطُّ إلَّا في إحدى ثَلاثِ خِصالٍ تُحِلُّ قَتْلَه شَرعًا؛ أوَّلُهم: مَن قَتَلَ غيرَه ظُلمًا، فيُقتَلُ قِصاصًا بِما يَجُرُّه على نَفْسِه مِن الذَّنْبِ أو مِن الجِنايةِ، أو رَجُلٌ زَنى بعْدَ إحْصانِ نفْسِه بالزَّواجِ؛ فإنَّه يُرجَمُ حَدًّا، وكذلك المرأةُ المُحصَنةُ بالزَّواجِ تُرجَمُ إذا زنت، أو رَجُلٌ حارَبَ اللهَ ورَسولَه وارْتَدَّ عن الإسْلامِ؛ فإنَّه يُقتَلُ بعد أن يُستَتابَ.
فَقالَ القَوْمُ الحاضِرون: أَوَلَيسَ قَدْ حَدَّثَ أَنَسُ بنُ مالِك أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَطَعَ في السَّرَقِ، وسَمَرَ -أي: كَحَلَ- الأعيُنَ بالمَساميرِ المُحْماةِ وفقَأَها، ثمَّ طَرَحَهم في الشَّمسِ تنكيلًا بسَبَبِ سَرِقَتِهم. واستشهادُهم بحديثِ أنَسٍ هذا؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقام حَدَّ السَّرِقةِ على العُرَنِيِّينَ، مع أنه لم يَرَهم يَسرِقون، ولكِنْ أقامه عليهم بشهادةِ من أخبَرَه بالأمرِ، فتكونُ القَسامةُ مِثْلَه.
فَأَجابَهم أبو قِلابةَ: أنا أُحَدِّثُكم حَديثَ أَنَسٍ: وذلك أنَّ ثمانيةَ رِجالٍ مِن عُكْلٍ -وهي قَبيلةٌ مِن قَبائلِ العرَبِ- قَدِموا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَبايَعوه على الإسْلامِ ونَطَقوا بكَلمةِ التَّوْحيدِ، وأظْهَروا الإسْلامَ، ولكنَّهم كَرِهوا الإقامةَ بالمَدينةِ؛ لِمَا أصابَهم مِن الدَّاءِ في أجْوافِهم؛ إذ لم تُوافِقْهم أَرْضُ المَدينةِ في جَوِّها وهَوائِها، وكَرِهوها؛ لِسَقَم أَجسامِهم، فَشَكَوْا ذلك السَّقَمَ وعَدَمَ مُوافَقةِ أَرْضِ المَدينةِ لهمْ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فعَرَضَ عليهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يَخْرُجوا مَعَ راعٍ له في إبِلِه الَّتي يَرعاها للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -وكانتِ الإبِلُ تَرْعى خارجَ المَدينةِ آنَذاكَ- فَيُصيبوا مِن أَلْبانِها وأَبْوالِها، فقالوا: بَلى، فَخَرَجوا فشَرِبوا مِن أَلْبانِها وأَبْوالِها فَصَحُّوا وعاد إليهم نشاطُهم وقُوَّتُهم، فَقَتَلوا راعيَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وساقوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ ذلك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعَلِمَ بفعْلَتِهم وقَتْلِهم للرَّاعي، فأَرسَلَ في آثارِهم جماعةً مِن أصحابِه يَتْبَعونَهم ويأتُون بهم، فَلما جيءَ بهم أَمَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهم، فَقُطِعَتْ أَيْديهم وأَرْجُلُهم، وَكَحَلَ أَعْيُنَهم بالمَساميرِ المْحَميَّةِ، ثمَّ طَرَحَهم في الشَّمسِ حتَّى ماتوا على حالِهم؛ جَزاءً لخِيانَتِهم، وقِصاصًا لِما فَعَلوه بِراعي النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذه المُثْلةُ مِن بابِ القِصاصِ، وهي تتَّفِقُ مع قَولِه تعالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقدْ فعَلَ فيهم مِثلَ ما فَعَلوه في الرَّاعي.
قال أبو قِلابةَ: وأَيُّ شَيءٍ أَشَدُّ مِمَّا صَنَعَ هؤلاء؟! ارْتَدُّوا عن الإسْلامِ، وقَتَلوا الرَّاعيَ، وسَرَقوا النَّعَمَ، فقالَ التابعيُّ عَنْبَسةُ بنُ سَعيدٍ مُتعجِّبًا مِن الحديثِ وما رواه أبو قِلابةَ: واللهِ ما سَمِعتُ كاليَوْمِ قَطُّ، فَقَال أبو قلابة: «أتَرُدُّ عَلَيَّ حَديثِي يا عَنْبَسَةُ؟!» كأنَّ أبا قِلابةَ فَهِمَ مِن كلامِ عَنْبسةَ إنكارَ ما حدَّث به، فقالَ عنبسةُ: «لَا، ولَكِنْ جِئْتَ بالحَديثِ علَى وجْهِهِ» دون زيادةٍ أو نُقصانٍ، وفيه إشعارٌ بأنَّه كان غيرَ ضابطٍ له على ما حدَّث به أنسٌ، فكان يظُنُّ أنَّ فيه دلالةً على جوازِ القَتْلِ في المعصيةِ ولو لم يقَعِ الكُفرُ، فلمَّا ساق أبو قِلابةَ الحديثَ تذكَّرَ أنَّه هو الذي حدَّثَهم به أنسٌ، فاعترف لأبي قِلابةَ بضَبْطِه، ثم أثنى على أبي قِلابةَ، وقال: واللهِ لا يَزالُ هذا الجُنْدُ مِن أهْلِ الشَّامِ بِخَيْرٍ، ما عاشَ هذا الشَّيْخُ بيْن أظْهُرِهم.
ثمَّ قال أبو قِلابةَ: وقَدْ كانَ في القَسامةِ سُنَّةٌ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهي أنَّه لَم يُحَلِّفِ المُدَّعيَ للدَّمِ، بَلْ حَلَّفَ المُدَّعى عليه أوَّلًا؛ وذَلِكَ حَيْثُ دَخَلَ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَفَرٌ مِن الأَنصارِ فتَحدَّثوا عِندَه، فَخَرجَ رَجُلٌ مِنهم، فسبقهم إلى خَيْبرَ -وهي مدينةٌ عربيَّةٌ، تَتْبَعُ منطقةَ المدينةِ المنوَّرةِ، وتبعُدُ عنها 153 كم إلى الشَّمالِ منها- وهذا الرجُلُ الذي سبقهم هو عَبْدُ اللهِ بنُ سَهْلٍ، فَقُتِلَ بخيبرَ، فَخَرَجوا بعْدَه، فَإذا هُم بِصاحِبِهم «يَتَشَحَّطُ» يَضْطَرِب في الدَّمِ، فَرَجَعوا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذكروا له مَقْتَلَ صاحِبِهم، فسألهم عمَّن يَظُنُّون -أو يَرَوْن أنه قَتَلَه؟ فقالوا: نَرى أنَّ اليَهودَ قَتَلَتْه، فَأَرْسَلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى اليَهودِ فَدَعاهم، فسَأَلَهم: «آنتُم قَتَلْتُم هذا؟» فأنكروا قَتْلَهم له، فسأل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُدَّعينَ: أَتَرْضونَ أن يحلف خَمْسونَ رَجُلًا يَمينًا أنَّهم ما قَتَلوه، فَقالوا: ما يُبالونَ أنْ يَقتُلونا أجْمَعينَ، ثمَّ يَحلِفونَ. قالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِلْمُدَّعينَ: أَفَتَستَحِقُّونَ الدِّيةَ بأيْمانِ خَمْسينَ مِنكُم؟ قالوا: ما كُنَّا لِنَحْلِفَ على شَيءٍ لم نَرَه، فوَدَاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عِندِه، فدفع ديتَه مائةً مِنَ الإبِلِ.
قالَ أَبو قِلابةَ: وقَدْ كانَتْ هُذَيْلٌ القَبيلةُ المَشْهورةُ خَلَعوا خَليعًا لهم في الجاهِليَّةِ، أي: نَقَضوا حِلْفَه، وقد كانت العَرَبُ يتعاهدون على النُّصرةِ وأن يؤخَذَ كُلٌّ منهم بالآخَرِ، فإذا أرادوا أن يتبرَّؤوا من الذي حالفوه أظهروا ذلك للنَّاسِ وسَمَّوا ذلك الفِعْلَ خلعًا، والمبَرَّأ منه خليعًا، أي: مخلوعًا، فلا يُؤخَذون بجنايتِه ولا يؤخَذُ بجنايتِهم، والجاهِلِيَّةُ: فترةُ ما قبل مَبعَثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَطَرَقَ هذا الخَليعُ أَهْلَ بَيْتٍ مِن اليَمَنِ، أي: هَجَمَ عليهم لَيْلًا في خُفْيةٍ؛ ليَسرِقَ مِنهم، وكانوا بالبَطْحاءِ، والمرادُ به: وادي مَكَّةَ، فانْتَبَهَ لَه رَجُلٌ مِنهم مِن أَهلِ البَيتِ، فَرَماه بالسَّيْفِ فَقَتَلَه، فَجاءَت هُذَيْلٌ فأَخَذوا الرَّجُلَ اليَمانِيَ الَّذي قَتَلَ الخَليعَ، فَرَفَعوه إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه بالمَوْسِمِ الَّذي يَجتَمِعُ فيه الحاجُّ كُلَّ سَنَةٍ، وقالوا: هذا قَتَلَ صاحِبَنا، فأخْبَرَ القاتِلُ بأنَّه لِصٌّ، وأنَّ قَوْمَه قَدْ خَلَعوه، فَقالَ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه: يَحلِفُ خَمْسونَ مِن هُذَيْلٍ أنَّهُم ما خَلَعوه، قالَ: فَأَقْسَمَ مِنهُم تِسْعةٌ وأَربَعونَ رَجُلًا كاذِبينَ أنَّهم ما خَلَعوه، وقِدَم رَجُلٌ مِن هُذَيْلٍ مِن الشَّامِ، فَسَأَلوه أنْ يُقسِمَ كَقَسَمِهم، فافْتَدى يَمينَه مِنهم بألْفِ دِرْهَمٍ، فَأَدْخَلوا مَكانَه رَجُلًا آخَرَ، فَدَفَعَ عُمرُ رَضِيَ اللهُ عنه القاتلَ إلى أَخي المَقْتولِ، فَقُرِنَتْ يَدُه بيَدِه، وهذا على عادةِ العربِ أَنَّهُم كانوا يُفَوِّضون القاتِلَ إلى أَوْلياءِ المقتول ليقْتَصُّوا منه حيث أَرَادُوا، قالوا: فانْطَلَقْنا نَحْنُ والخَمسونَ الَّذينَ أَقْسَموا أنَّهم ما خَلَعوه حتَّى إذا كانوا بِنَخْلةَ -مَوْضِعٌ على لَيْلةٍ مِن مَكَّةَ- أَخَذَتْهم السَّماءُ، أي: نزل المَطَرُ، فَدَخَلوا في غارٍ في الجَبَلِ لِيَحتَمُوا من المطَرِ، فانْهَدَمَ الغارُ على الخَمْسينَ الَّذينَ أَقْسَموا، فَماتوا جَميعًا، ونَجا وخَلَصَ القَرينانِ: أَخو المَقْتولِ والقاتِلُ، واتَّبَعَهما حَجَرٌ، فكَسَرَ رِجلَ أَخي المَقْتولِ، فَعاشَ حَوْلًا ثمَّ ماتَ!
يَقولُ أَبو قِلابةَ: وقَدْ كانَ عَبْدُ المَلِكِ بنُ مَرْوانَ قتل رَجُلًا بِالقَسامةِ، ثمَّ نَدِمَ بَعْدَما صَنَعَ، فَأَمرَ بِالخَمْسينَ الَّذينَ أَقسَموا فَمُحوا مِن الدِّيوانِ -وهو الدَّفترُ الذي يُكتَبُ فيه أسماءُ الجيشِ وأصلُ العَطاءِ- ونَفاهُم إلى الشَّامِ.
وفي الحَديثِ: التَّحْذيرُ مِنَ الخيانةِ، وسُوءِ عاقِبةِ الخائِنينَ.
وفيه: أنَّ العُقوبةَ على قَدْرِ الجُرْمِ.
وفيه: مَشْروعيَّةُ التَّداوي بألْبانِ الإبلِ وأبْوالِها.
وفيه: أنَّ اليمينَ تُوَجَّهُ أوَّلًا على المدَّعى عليه لا على المدَّعِي.
وفيه: أنَّ شهادةَ الإنسانِ وحَلِفَه على ما لم يَرَه لا يقامُ بهما حَدٌّ ولا قِصاص.