باب النهي عن الإمساك في الحياة والتبذير عند الموت 1
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا شريك، عن عمارة بن القعقاع وابن شبرمة (2)، عن أبي زرعةعن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، نبئني، بأحق الناس مني بحسن الصحبة؟ فقال: "نعم -وأبيك- لتنبأن. أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك" قال: نبئني يا رسول الله عن مالي كيف أتصدق فيه؟ قال: نعم -والله- لتنبأن. تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش وتخاف الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت نفسك هاهنا، قلت: مالي لفلان، ومالي لفلان، وهو لهم، وإن كرهت" (1).
الأمُّ هي مَحلُّ البِرِّ والإكرام، وهي رَمْزُ التَّضحيةِ والفِداءِ والطُّهْرِ والنَّقاءِ، وهي الأصلُ الَّذي يَشرُفُ به الولَدُ، وأحَقُّ النَّاسِ بصُحبتِه، ويَليها الأبُ في حقِّ البرِّ والصُّحبةِ.
وفي هذا الحَديثِ يَحكي أبو هُرَيرةَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ رجلًا -وهو معاويةُ بنُ حَيدةَ رضِيَ اللهُ عنه؛ جَدُّ بَهْزِ بنِ حَكيمٍ- سَأَل رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن أَوْلى النَّاسِ بالإحسانِ إليه والبِرِّ به في مُصاحبتِه له؟ فأجابه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ أَوْلى النَّاسِ بحُسنِ المُعاملةِ وطِيبِ المُعاشَرةِ هي الأمُّ، ثمَّ سأله: ثمَّ مَن يلي الأمَّ في هذا الحَقِّ؟ فأجابه بالإجابةِ نفسِها: أمُّك، قال: ثمَّ مَن؟ قال: أمُّك، وهكذا أوصاه بالأمِّ وأكَّد حقَّها في حُسنِ المُعاملةِ ثَلاثَ مرَّاتٍ؛ بَيانًا لفضْلِها على سائرِ الأقاربِ دونَ استثناءٍ. ثمَّ سأله الرابعةَ: ثمَّ مَن؟ قال: أبوك، فكرَّر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حقَّ الأمِّ ثلاثًا، وذكَر حقَّ الأبِ مرَّةً واحدةً، وليس ذلك تَقليلًا مِن حقِّ الأبِ، وإنَّما هو تأكيدٌ على عِظَمِ حقِّ الأمِّ؛ ولعلَّ ذلك لكثرةِ أفضالِها على ولدِها، وكثرةِ ما تحمَّلَتْه مِن المتاعبِ الجِسميةِ والنَّفسيَّةِ أثناءَ حمْلِها به، ووضْعِها وإرضاعِها له، وخِدمتِها وشَفقتِها عليه، وهذه الشَّفقةُ قد تُطمِعُ وَلدَها فيَتهاونُ في بِرِّها؛ ولذا أكَّدَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِرَّ الأمِّ مِرارًا.