باب تلقيح النخل 2
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا ثابت، عن أنس بن مالك. وهشام بن عروة، عن أبيه
عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع أصواتا، فقال: "ما هذا الصوت؟ " قالوا: النخل يأبرونه، فقال: "لو لم يفعلوا لصلح" فلم يأبروا عامئذ، فصار شيصا، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن كانشيئا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإن كان شيئا من أمر دينكم فإلي" (1).
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشَرًا يُوحَى إليه، فكان يَتكلَّمُ بما هو مِن الوحيِ ويُبيِّنُه للنَّاسِ، وكذلك كان يَتكلَّمُ مع النَّاسِ في أُمورِ الدُّنيا وما يَعلَمونه بالخبراتِ الحياتيَّةِ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي طَلحَةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه مرَّ معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقَومٍ وجماعةٍ مِن النَّاسِ، وهم عَلى «رُؤوسِ النَّخلِ»، أي: إنَّ على أعلى كُلِّ نَخلةٍ رَجلًا، فسَألَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن سَببِ فِعلِهم ووُجودِهم في أعالي النَّخلِ، فأَجابوا: «يُلقِّحونَه؛ يَجعلونَ الذَّكَرَ في الأُنْثى فيَلقَحُ»، وفي رِوايةٍ عند مُسلمٍ: «يَأْبُرُونَ النَّخْلَ» ومَعناه أنَّهم يُشقِّقون طَلْعَ النَّخلِ الإناثِ -وهي الَّتي تُنتِجُ التَّمرَ- ويَضَعون فيه اللِّقاحَ المأخوذَ مِن طَلْعِ النَّخلِ الذَّكَرِ، ومِثلُ هذا يُسمَّى بالتَّلقيحِ اليدويِّ، وفِعلُهم هذا لِيَتأكَّدَ لهم إنتاجُ التَّمرِ على وَفرتِه وكَثرتِه الَّتي يَعْتادونها بمِثلِ تلك الطَّريقةِ مِن التَّلقيحِ.
فأخبَرَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه يَظُنُّ أنَّ ذلك لا يُغني عنْ قَدْرِ اللهِ شيئًا إذا أَراد عَدمَ صَلاحِه، ولعلَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أرادَ أنْ يُوجِّهَهم إلى التَّوكُّلِ على اللهِ في هذا الأمرِ، وهو التَّلقيحُ الطَّبيعيُّ بفِعلِ الرِّياحِ، وليْس هذا منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه يُرشِدُهم إلى تَركِ الزَّرعِ وأسبابِ إنتاجِ الغِذاءِ بالكُلِّيَّةِ، ولعلَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رأى أنَّ ذلك التَّلقيحَ إنَّما هو مَجهودٌ مُهدَرٌ في مِثلِ تلك المرحلةِ مِن مَراحلِ إنتاجِ التَّمرِ، كما في كَثيرٍ مِن الثِّمارِ والأشجارِ، وذِكرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للظَّنِّ في قولِه: «ما أَظُنُّ» ظاهرُه أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال ذلك مِن عِنده، وليْس بوَحيٍ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، ففَهِمَ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم أنَّ هذا أمرٌ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأُخْبِرَ النَّاسُ مِن أصحابِ النَّخلِ ومَن يُلقِّحون بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فتَرَكوا التَّلقيحَ استجابةً لأمرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفي رِوايةٍ عندَ مُسلمٍ: «فَتَرَكوه فنَفَضَت أو فنَقَصَت»، وفي رِوايةٍ أُخرى عندَ مُسلمٍ: «فخَرَجَ شَيصًا»، وهو التَّمرُ الرَّديءُ الَّذي لا يَكونُ فيه ما يُؤكلُ، وإنَّما يَكونُ قِشرةً ونَوًاة، والمعنى: أنَّهم لَمَّا تَرَكوا التَّلقيحَ اليدويَّ للنَّخلِ، جاء التَّمرُ رَديئًا كمًّا وكيفًا، فأُخبِرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلكَ، فَقال: «إنْ كانَ يَنفَعُهم ذلكَ فَلْيَصنَعوه» فرخَّصَ لهم في الرُّجوعِ إلى التَّلقيحِ اليدويِّ كما كانوا يَفعَلون، «فإنِّي إنَّما ظَننْتُ ظنًّا»، أي: رَأيتُ رَأيًا، وهذا تَأكيدٌ على أنَّ نَهْيَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهم لم يُكْن بوَحيٍ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، «فَلا تُؤاخِذوني بالظَّنِّ»، بمعنى: أنَّ رأْيَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أُمورِ المعايشِ وظَنَّه كغَيرِه مِن النَّاسِ، وهذا اعتذارٌ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَخافةَ أنْ يَستزِلَّ الشَّيطانُ ضِعافَ العُقولِ، فيُكذِّبوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيَكفُروا، ثمَّ قال لهم: «ولكن إِذا حدَّثتُكم عنِ اللهِ شيئًا فخُذوا بِه؛ فإِنِّي لن أَكذِبَ على اللهِ عزَّ وجلَّ»، ولنْ أنْسُبَ إليه ما لم يَقُلْه ولم يَأمُرْني به، وفي مِثلِه لا يَحصُلُ اجتهادٌ الَّذي ربَّما يَأتي منه الخطأُ، فهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَعلمُ بأَمْرِ دِينِهم وأُخراهم مِنهُم، وفي رِوايةٍ عندَ مُسلمٍ قال لهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أنتُم أَعلمُ بأَمرِ دُنياكم»، يعني ممَّا لكم فيه تَجارِبُ وعِلمٌ.
وخُلاصةُ القولِ: أنَّ ما صَدَر مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ممَّا يَتعلَّقُ بتَبليغِ الرِّسالةِ عن اللهِ تَعالَى، فهو وَحيٌ مَحضٌ لا شائبةَ فيه، وأمَّا ما يَصدُرُ عنه على سَبيلِ الظَّنِّ والتَّخمينِ -كما هو الواقعُ في هذا الحديثِ وأمثالِه- فإنَّه بشَرٌ كسائرِ البَشرِ، يُصِيبُ ويُخطِئُ.
وفي الحديثِ: بَيانُ الفَرقِ بينَ ما قالَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن مَعايشِ الدُّنيا عَلى سَبيلِ الرَّأيِ وبينَ ما قالَه شَرعًا وحدَّثَ به عن رَبِّ العزَّةِ عزَّ وجلَّ.