باب حديث الإفك 2
بطاقات دعوية
عن الزهرى قال: قال لي الوليد بن عبد الملك: أبلغك أن عليا كان فيمن قذف عائشة؟ قلت: لا؛ ولكن قد أخبرنى رجلان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن عائشة - رضى الله عنها - قالت لهما: كان على مسلما (95) فى شأنها. فراجعوه , فلم يرجع (96) , وقال: مسلما بلا شك فيه وعليه , وكان في أصل العتيق كذلك.
حادِثةُ الإفْكِ الَّتي رُمِيَتْ بها بُهْتانًا وكَذِبًا أُمُّ المؤمِنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها، كانت مِن أعظَمِ الحَوادِثِ، وكانت اخْتِبارًا حَقيقيًّا لصِدْقِ الإيمانِ لدى كَثيرٍ منَ المُسلِمينَ، وقدْ أنزَلَ اللهُ بَيانًا واضِحًا ببَراءتِها، وهذا مِن فَضلِ اللهِ عليها، وعلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والأُمَّةِ كُلِّها.
وفي هذا الحَديثِ يُبيِّنُ محمَّدُ بنُ مُسلِمِ بنِ شِهابٍ الزُّهْريُّ رحِمَه اللهُ للوَليدِ بنِ عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ، وقدْ سأَله: هلْ بلَغَه أنَّ عَليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه كان فيمَن قذَفَ أُمَّ المؤمِنينَ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها في حادِثةِ الإفْكِ عندَما اتُّهِمَتْ رَضيَ اللهُ عنها ظُلْمًا وبُهْتانًا في عِرْضِها؟ فأنْكَرَ الزُّهْريُّ ذلك، وقال: «لا، ولكنْ قدْ أخْبَرَني رَجُلانِ من قَومِكَ»، أي: مِن قُرَيشٍ، وهما أبو سَلَمةَ بنُ عبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي بَكرٍ، وأبو بَكرِ بنُ عبدِ الرَّحمَنِ بنِ الحارِثِ: أنَّ أُمَّ المؤمِنينَ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها قالت: «كان عَلِيٌّ مُسَلِّمًا في شَأْنِها» مِن التَّسْليمِ، أي: كان ساكِتًا تُجاهَ اتِّهامِهما في عِرْضِها، فلمْ يَتكلَّمْ، وفي رِوايةٍ «مُسَلَّمًا»، أي: سالمًا مِن الخَوضِ في عِرْضِها كما خاضَ أصحابُ الإفكِ، وقدْ رُوِيَ أنَّها قالت: «مُسيئًا»، وغَرَضُها بالإساءةِ قولُه -كما في الصَّحيحينِ-: «لم يُضَيِّقِ اللهُ عليكَ، والنِّساءُ سِواها كَثيرٌ»، ولم يَقُلْ -كما قال أُسامةُ بنُ زَيدٍ رَضيَ اللهُ عنه-: «يا رسولَ اللهِ، همْ أهْلُك، ولا نَعلَمُ إلَّا خَيرًا». ولم يكُنْ عَلِيٌّ رَضيَ اللهُ عنه لِيُسيءَ الظَّنَّ بأهلِ بَيتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحاشَاهُ رَضيَ اللهُ عنه، وإنَّما حمَلَه على ما قالَهُ إشْفاقُه على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ورَغبتُه في إذْهابِ الغَمِّ والكَرْبِ عن نفْسِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِمَا رَأى مِن شدَّةِ تأثُّرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالأمْرِ.
وقولُه: «فَرَاجَعُوهُ فَلَمْ يَرْجِعْ. وقالَ: مُسَلِّمًا، بلَا شَكٍّ فيه»، أي: راجَعوه في رِوايةِ لَفظِ الحديثِ هل «مُسلِّمًا» أو «مُسيئًا»؟ ويَحتمِلُ أنْ تكونَ تلك المراجَعةُ وَقَعَت مع هِشامِ بنِ يُوسُفَ أحَدِ رُواةِ الحديثِ، ويَحتمِلُ أنْ تكونَ المراجَعةُ وَقَعَت للزُّهريِّ، وقولُه: «فلمْ يَرجِعْ»، أي: لم يُجِبْ بغَيرِ ذلك، «عليه» أي: على الوليدِ، وقولُه: «وكان في أصْلِ العَتيقِ كذلك»، أي: كان في أصْلِ الكِتابِ القَديمِ مَكتوبٌ: «مُسلِّمًا» لا «مُسِيئًا».
وفي الحَديثِ: فَضلُ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه، وبَراءَتُه مِن الوُقوعِ في عِرضِ أُمِّ المؤمِنينَ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها.
وفيه: بَيانُ تَحرِّي عُلماءِ السُّنَّةِ لألفاظِ الأحاديثِ، ورِوايَتِها، وضَبطِها.