باب فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه 7
بطاقات دعوية
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال قال عمر - رضي الله عنه - وافقت ربي عز وجل في ثلاث في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر. (م 7/ 116
كان عُمرُ بنُ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه رجُلًا مُلهَمًا، ذا فِراسةٍ حادَّةٍ، وبَصيرةٍ مُتوقِّدةٍ، وكان رُبَّما نطَقَ ببَعضِ القُرآنِ قبْلَ أنْ يَنزِلَ به ملَكُ الوحْيِ جِبريلُ عليه السَّلامُ، وأحيانًا أُخرى كان الوحيُ يَنزِلُ فيُؤيِّدُ رأيَه مِن فَوقِ سَبعِ سَمواتٍ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ أباه عُمرَ بنَ الخطَّابِ قال: «وافقْتُ ربِّي في ثَلاثِ» أُمورٍ، وما أحسَنَ عِبارَتَه وألطَفَها! حيثُ راعَى فيها حُسْنَ الأدبِ؛ فَلَم يَقُل: وافقَني ربِّي في ثلاثٍ؛ لأنَّ الآياتِ إنَّما نَزَلَتْ مُوافِقةً لرَأْيِه واجتهادِه. وإنَّما ذَكَر عمرُ رَضيَ اللهُ عنه مُوافقاتِه لله تَعالَى؛ ليَحسُنَ ظنُّ السامعينَ بِه ولا يُنازِعوه في حقٍّ يقولُه، ولكي يَقتديَ به المؤمنونَ في إيثارِه الحقَّ وقولِه الصَّوابَ، ثمَّ ذَكَر هذه الثَّلاثَ؛ فالأُولى: «مَقامُ إبراهيمَ»، وهو أنَّ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه -كما عندَ البُخاريِّ- قال: يا رسولَ اللهِ، لو اتَّخَذْنا مِن مَقامِ إبراهيمَ مُصَلًّى؟ فنزَلَتْ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، أي: اتِّخِذوا -أيُّها النَّاسُ- من مَقامِ إبراهيمَ مُصلًّى تُصلُّون عنده، عِبادةً منكم للهِ تَعالَى، وتَكرُمةً لإبراهيمَ مِن اللهِ سبحانَه، وذلك عَقِبَ الانتهاءِ من الطَّوافِ بالكَعبةِ، ومَقامُ إبراهيمَ هو مَوضِعُ قيامِه، وهو الحَجَرُ الَّذي كان يَقِفُ عليه إبراهيمُ عليه السَّلامُ عندَ بِنائِه لِلكَعبةِ، ومَكانُه مَعروفٌ الآنَ إلى جانبِ الكعبةِ، وقدْ أُحِيطَ الآنَ بمَقصورةٍ مِن الزُّجاجِ.
وأمَّا الموافَقةُ الثَّانيةُ فكانت: «في الحِجابِ»، يَعني: آيةَ الحِجابِ؛ فقد أخرَجَ البُخاريُّ أنَّ عُمَر رَضيَ اللهُ عنه قال: «يا رسولَ اللهِ، لوْ أَمَرْتَ نساءَك أن يحتَجِبْن؛ فإنَّه يُكَلِّمُهُنَّ البَرُّ والفاجِرُ، فنزلتْ آيةُ الحِجابِ»، وهي قولُه تَعالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]، وقد كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعلمُ أنَّ حَجْبَهنَّ خيرٌ من غَيرِه، لكنَّه كانَ مترقِّبًا للوَحْيِ؛ ولذلك لم يُوَافقْ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه حين أَشارَ عليه بذلِك.
والموافَقةُ الثَّالثةُ: «في أُسارى بَدْرٍ»، أي: في مُوافَقةِ حُكْمهِ ورأيِه لحُكمِ الله تَعالَى في أَسْرى بَدْر، وذلك حينما سألَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ -كما رواهُ مُسْلمٌ-: «ما ترَوْنَ في هؤلاء الأُسارى؟ فقال أبو بكرٍ: يا نبيَّ اللهِ، هم بنو العَمِّ والعَشيرةِ، أرى أنْ تأخُذَ منهم فِديةً فتكونَ لنا قوَّةً على الكفَّارِ، فعسى اللهُ أن يَهديَهم للإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما ترى يا ابنَ الخطَّابِ؟ قال: لا، واللهِ ما أرى الَّذي رأى أبو بكرٍ، ولكنِّي أرى أن تُمكِّنَّا فنَضرِبَ أعناقَهم؛ فإنَّهم أئمَّةُ الكُفرِ، فهَوِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما قال أبو بكرٍ، فلمَّا كان مِن الغَدِ جاء عمرُ فوجَد رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأبا بكرٍ قاعدَيْنِ يَبكيانِ، فسألهما: يا رسولَ اللهِ، أخْبِرني مِن أيِّ شيءٍ تَبكي أنتَ وصاحبُك، فإنْ وجَدْتُ بكاءً بكَيْتُ، وإنْ لم أجِدْ بكاءً تباكَيْتُ لبُكائِكما؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَبْكِي للَّذي عرَض عليَّ أصحابُك مِن أخْذِهم الفِداءَ، لقد عُرِضَ عليَّ عذابُهم أدْنى مِن هذه الشَّجرةِ، وأنزَل اللهُ عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]»، أي: يُكثِرَ القَتْلَ والقهرَ في العَدُوِّ، إلى قولِه: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، أي: ولولا حُكْمٌ من اللهِ سَبَق إثباتُه في اللَّوحِ المحفوظِ، وهو ألَّا يُعاقِبَ المُخْطِئَ في اجتهادِه، أو ألَّا يُعذِّب أهلَ بَدْرٍ أو قومًا لم يُصرِّح لهم بالنَّهيِ عنه، أو أنَّ الفِدْيةَ الَّتي أَخَذوها ستَحِلُّ لهم؛ لَمَسَّهم ونالَهم فيما أَخَذوا من الفِداءِ عذابٌ عظيمٌ؛ فنزَلَتِ الآياتُ بموافقةِ رأي عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه في أسارى بَدرٍ.
وليْس في تَخصيصِ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنه العَدَدَ بالثَّلاثِ في هذا الحديثِ ما يَنفي الزِّيادةَ عليها؛ لأنَّه حَصلتْ له الموافقةُ في أشياءَ غيرِ هذه؛ مِن أشهرِها: قِصَّةُ اجتماعِ نِساءِ النَّبيِّ عليه في الغَيْرةِ، وقولُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه لهنَّ: عسى ربُّه إنْ طلَّقكنَّ أنْ يُبْدِلَه أزواجًا خيرًا مِنكنَّ. ومنها: قِصَّةُ الصَّلاةِ على المنافقينَ.
وفي الحديثِ: التَّحدُّثُ بنِعمةِ اللهِ، وذِكرُ المناقبِ الخاصَّةِ ما لم يَترتَّبْ على ذلك مَفسَدةٌ للنَّفسِ.