باب فضل من تعلم القرآن وعلمه 3
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك
عن أبي موسى الأشعري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر، ولا ريح لها" (2).
كلامُ اللهِ المجيدُ له تأثيرٌ في باطِنِ العَبدِ وظاهِرِه، وإنَّ العِبادَ مُتفاوِتون في ذلك؛ فمنهم مَن له النصيبُ الأوفَرُ من ذلك التأثيرِ، وهو المؤمِنُ القارئُ، ومنهم مَن لا نصيبَ له ألبتَّةَ، وهو المنافِقُ الحقيقيُّ، ومنهم مَن تأثَّر ظاهِرُه دون باطِنِه، وهو المرائي، أو بالعَكسِ، وهو المؤمِنُ الذي لا يَقَرُؤه.
وفي هذا الحديثِ دَعوةٌ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقراءةِ القرآنِ، وحثٍّ على الانتفاعِ به ظاهِرًا وباطِنًا، ونفعِ النَّاسِ به، وقد ضرَبَ فيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَثَلًا يُقسِّمُ فيه الناسَ وعَلاقتَهم بالقرآنِ إلى أربعةِ أقسامٍ:
القِسمُ الأولُ: هو المُؤمنُ الذي يَقرَأُ القرآنَ ويَنتفِعُ به، فيَعمَلُ بما يَقرَأُ، ويَنفَعُ عِبادَ اللهِ، وهذا شبَّهه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بثَمَرةِ الأُتْرُجَّةِ، وهو ثَمَرٌ جامِعٌ لِطِيبِ الطَّعْمِ والرَّائحةِ وحُسْنِ اللَّونِ، ومَنافِعُه كَثيرةٌ. ويُسَمَّى في بَعضِ البُلدانِ بالأُترُجِّ، وهو مِنَ الحِمْضيَّاتِ يُشبِهُ اللَّيمونَ، وحَجمُه أكبَرُ من البُرتقالِ، وقِشرتُه مُتعَرِّجةٌ.
وأما القِسمُ الثاني: فهو المؤمنُ الذي طاب باطِنُه لثَباتِ الإيمانِ فيه، وقيامِه بالواجباتِ، غيرَ أنَّه لا يَقرَأُ القرآنَ، باستثناءِ الواجبِ منه كالفاتحةِ، فشَبَّهُه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالتَّمْرةِ؛ طَعْمُها حُلْوٌ، ولا رِيحَ لها؛ فاشتِمالُه على الإيمانِ كاشتِمالِ التَّمرةِ على الحلاوةِ، بجامعِ أنَّ كِلَيهما أمرٌ باطنيٌّ، وعدمُ ظُهورِ رِيحٍ لها يَستريحُ الناسُ لشَمِّه؛ لعَدَمِ ظُهورِ قِراءةٍ منه يَستريحُ النَّاسُ بسَماعِها.
وأما القسمُ الثالثُ: فهو المُنافقُ الذي يَقرَأُ القرآنَ، ولا يُصلِحُ قلْبَه بالإيمانِ، ولا يَعمَلُ به، ويَتظاهَرُ أمامَ الناسِ أنَّه مُؤمنٌ، فهو من حيثُ تَعطُّلُ باطنِه عنِ الإيمانِ واستراحةُ الناسِ بقراءتِه، مِثْلُ الرَّيحانةِ لها رائحةٌ طيِّبةٌ وطعْمُها مُرٌّ؛ فرِيحُها الطيِّبُ يُشبِهُ قِراءتَه، وطعْمُها المرُّ يُشبِهُ كُفرَه.
وأمَّا القِسمُ الرابعُ: فهو المُنافقُ الذي لا يَقرَأُ القُرآنَ، شبَّهه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من حيثُ تَعطُّلُ باطنِه عنِ الإيمانِ، وظاهرِه عن سائرِ المنافعِ، وتلبُّسُه بالمضارِّ؛ بالحنظلةِ، حيثُ إنَّها لا رائحةَ لها، وفيها ما فيها منَ المَذاقِ المُرِّ؛ فانعِدامُ رِيحِها أشبهُ بانعدامِ رِيحِه لعدمِ قِراءتِه، ومَرارةُ طعْمِها شَبيهٌ بمَرارةِ كُفرِه.
وهذه التشبيهاتُ وارِدةٌ على التقسيمِ الحاصِرِ للنَّاسِ؛ لأنَّ النَّاسَ إمَّا مؤمِنٌ أو غيرُ مؤمِنٍ، والثَّاني إمَّا منافِقٌ صِرفٌ أو مُلحَقٌ به، والأوَّلُ المؤمِنُ إمَّا مواظِبٌ على القراءةِ أو غيرُ مواظِبٍ عليها.
وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يقرأُ القُرآنَ» على صيغةِ المضارعِ ونَفْيِه في قَولِه: «لا يقرَأُ» ليس المرادُ منهما حصولَها مرَّةً ونَفْيَها بالكُليَّةِ، بل المرادُ منهما الاستمرارُ والدَّوامُ عليهما، وأنَّ القِراءةَ دأبُه وعادتُه، أو ليست عادةً له.
وفي الحَديثِ: فَضيلةُ حامِلِ القُرآنِ، وفَضْلُ القُرآنِ على غيرِه من الكلامِ.
وفيه: أنَّ المقصودَ مِن تلاوةِ القُرآنِ العَمَلُ، كما دَلَّ عليه قَولُه «ويَعمَل به».