باب فى قتل الخوارج
حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير وأبو بكر بن عياش ومندل عن مطرف عن أبى جهم عن خالد بن وهبان عن أبى ذر قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : « من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه »
مِن أساليبِ البَيانِ في القرآنِ والسُّنَّةِ النَّبويَّةِ: ضَربُ الأمثالِ لِتَقريبِ المفاهيمِ للنَّاسِ عندَ وَعْظِهم وتَعليمِهم، وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "إنَّ اللهَ أمَر يَحْيى بنَ زكَريَّا بخَمسِ كَلِماتٍ"، أي: أوحى إليه وأمَره بخمسِ أوامِرَ ووَصايا، "أن يَعمَلَ بها، ويأمُرَ بَني إسرائيلَ أن يَعمَلوا بها"، أي: على سبيلِ التَّكليفِ بها، "وإنَّه كاد أن يُبطِئَ بها"، أي: تأخَّر في بَلاغِها لِبَني إسرائيلَ، فقال عيسى ليحيى: "إنَّ اللهَ أمَرك بخمسِ كلماتٍ لِتَعمَلَ بها وتأمُرَ بَني إسرائيلَ أن يَعمَلوا بها، فإمَّا أن تَأمُرَهم، وإمَّا أنا آمُرُهم"، أي: إمَّا أن تُبلِّغَهم أنت أو أُبلِّغَهم أنا بها، وهذا من باب الحَثِّ على السُّرعةِ في تبليغِ أوامرِ اللهِ، فقال يحيى: "أخشى إن سبَقتَني بها"، أي: بِتَبليغِها لبني إسرائيلَ، "أن يُخسَفَ بي أو أُعذَّبَ"، أي: يقَعَ غضَبٌ مِن اللهِ عليه، "فجمَع النَّاسَ"، أي: فجمَع يحيى بني إسرائيلَ، "في بيتِ المقدِسِ، فامتلَأ المسجدُ وقعَدوا على الشُّرُفِ" جمعُ شُرْفةٍ، وهي الأماكنُ المرتفِعةُ في المسجدِ وحولَه، وهذا كنايةٌ عن شدَّةِ الازدِحامِ وكَثرةِ مَن حضَر، فقال يحيى عليه السَّلامُ: "إنَّ اللهَ أمَرني بخمسِ كلماتٍ أن أعمَلَ بهنَّ، وآمُرَكم أن تَعمَلوا بهنَّ: أوَّلهنَّ: أن تَعبُدوا اللهَ ولا تُشرِكوا به شيئًا، وإنَّ مَثلَ مَن أشرَك باللهِ كمَثلِ رجُلٍ اشتَرى عبدًا مِن خالِصِ مالِه بذَهبٍ أو وَرِقٍ، فقال: هذه داري وهذا عمَلي"، وهذا كنايةٌ عن خَلْقِ اللهِ للعبادِ، وعطائِه ورِزقِه لهم، "فاعمَلْ وأدِّ إليَّ"، أي: يَكونُ نِتاجُ عمَلِ العبدِ لسيِّدِه لا لغيرِه، "فكان يَعمَلُ ويُؤدِّي إلى غيرِ سيِّدِه، فأيُّكم يَرْضى أن يَكونَ عبدُه كذلك؟"، أي: يُنكِرُ عليهم أن يُشرِكوا مع اللهِ غيرَه بمِثْلِ ما يُنكِرُ أحدُهم أن يُنتِجَ مملوكُه ويُعطِيَ نِتاجَه غيرَ سيِّدِه، والثَّانيةُ: "وإنَّ اللهَ أمَركم بالصَّلاةِ"، أي: فرَضها عليكم، "فإذا صلَّيتم فلا تَلتَفِتوا"، أي: فلا تتَحوَّلوا بوُجوهِكم عن جهةِ القِبْلةِ أثناءَ الصَّلاةِ، "فإنَّ اللهَ يَنصِبُ وجهَه لِوَجهِ عبدِه في صَلاتِه"، أي: يُقابِلُ بوَجهِه سُبحانَه وتعالى، وصِفةُ الوجهِ ثابتةٌ لله سبحانه كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، وهي صِفةُ كمالٍ كما يَليقُ بجَلالِهِ وكمالِه سبحانه، ولَيسَ كَمِثلِه شيءٌ، والواجبُ هو الإيمانُ بما ورَدَ في الكتاب والسُّنَّةِ دونَ تكييفٍ أو تمثيلٍ، أوتحريف أو تعطيلٍ. "ما لم يَلتَفِتْ"، أي: يُقبِلُ اللهُ على عبدِه المصلِّي ما دامَ العبدُ خاشِعًا، فإذا الْتفَت زالَ الخُشوعُ وأعرَض اللهُ عنه؛ لأنَّ الوقوفَ بينَ يدَيِ الملِكِ يَقتَضي المداومةَ على التَّبجيلِ والتَّقديسِ، والثَّالثةُ: "وآمُرُكم بالصِّيامِ؛ فإنَّ مَثَل ذلك"، أي: مثَلَ الصَّائمِ، "كمثَلِ رجُلٍ في عِصابةٍ"، أي: في جماعةٍ، "معه صُرَّةٌ"، والصُّرَّةُ مِثلُ الكيسِ الَّذي يُحفَظُ فيه النُّقودُ، "فيها مِسْكٌ، فكلُّهم يَعجَبُ أو يُعجِبُه رِيحُها، وإنَّ ريحَ الصَّائمِ"، أي: رِيحَ فَمِه، "أطيَبُ عندَ اللهِ مِن ريحِ المسكِ"، أي: أزكى عندَ اللهِ تعالى وأقرَبُ إليه، وأرفَعُ عِندَه مِن ريحِ المسكِ، وهذا مِن الثَّناءِ على الصَّائمِ، والرِّضا بفِعْلِه. والرَّابعةُ: "وآمُرُكم بالصَّدقةِ؛ فإنَّ مَثلَ ذلك"، أي: مَثلَ الَّذي يُخرِجُ الصَّدقةَ، "كمَثلِ رجلٍ أسَرَه العدوُّ، فأوثَقوا"، أي: ربَطوا "يدَه إلى عُنقِه، وقدَّموه لِيَضرِبوا عُنقَه، فقال"، أي: رجلٌ: "أنا أَفْديه مِنكم" مِن الفِدْيةِ وهو فَكاكُ الأسيرِ، "بالقليلِ والكثيرِ"، أي: بكلِّ ما تُريدون من مالٍ وإن بلَغ ذلك جميعَ مالي، "ففَدى نفسَه مِنهم"، أي: أعتَقوه وترَكوه بتلك الفديةِ، وكذلك صاحبُ الصَّدقةِ؛ فإنَّه يُعتِقُ نفْسَه مِن النَّارِ، والخامسةُ: "وآمُرُكم أن تَذكُروا اللهَ؛ فإنَّ مثَلَ ذلك"، أي: مَثلَ الَّذي يَذكُرُ اللهَ تعالى، "كمَثلِ رجلٍ خرَج العدوُّ في أثَرِه سِراعًا"، أي: لاحَقه الأعداءُ وجَرَوْا خلفَه "حتَّى إذا أتَى على حِصْنٍ حُصينٍ فأحرَز نفْسَه منهم"، أي: حمَى ومنَع نفْسَه في ذلك الحِصْنِ "كذلك العبدُ لا يُحرِزُ"، أي: لا يَمنَعُ، "نفْسَه مِن الشَّيطانِ"، أي: مِن وَساوِسِه وتسَلُّطِه عليه، "إلَّا بذِكْرِ اللهِ"، أي: إنَّ ذِكْرَ اللهِ تعالى بمَثابةِ الحِصْنِ الَّذي يَمنَعُه مِن الشَّيطانِ
ثم قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "وأنا آمُرُكم بخَمسٍ، اللهُ أمَرني بهِنَّ"، أي: بمِثْلِ ما أمَر اللهُ عزَّ وجلَّ يَحْيى، وهذه الأمورُ هي: "السَّمعُ والطَّاعةُ"، أي: للإمامِ، وعدَمُ الخروجِ عليه ما لم يُرَ مِنه كفرٌ بواحٌ، "والجهادُ"، أي: في سَبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لإعلاءِ كَلِمتِه بكلِّ الطُّرقِ والوسائلِ، "والهجرةُ"، أي: تَرْكُ دارِ الكُفرِ إلى دارِ الإيمانِ في المدينةِ النبويَّةِ- وكانتِ الهِجرةُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم واجبةً قبلَ فتحِ مكَّةَ، ولكن بعدَ الفَتْحِ لا تُوجَدُ هجرةٌ مِن مَكَّةَ لأنها صارتْ دارَ إسلامٍ، ولكن يُوجَدُ جِهادٌ وتصحيحُ النِّيَّةِ في العمَلِ، "والجَماعةُ"، أي: مُلازَمتُها وتَرْكُ الفُرْقةِ، والمرادُ بالجماعةِ: جماعةُ المسلِمين المتمسكِّين بهَدْيِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وسُنَّتِه وما جاء في القُرآنِ الكريمِ، وكان عليه الصَّحابةُ والتَّابعون لهم بإحسانٍ رضوانُ اللهِ عليهم؛ "فإنَّه مَن فارَق الجماعةَ قِيدَ"، أي: بمِقْدارِ "شِبْرٍ؛ فقَد خلَع رِبْقةَ الإسلامِ من عُنقِه"، نزَع عن نفْسِه عُرى الإسلامِ وميثاقَه، والرِّبْقةُ: ما يُجعَلُ في عُنقِ البَهيمةِ لِتُمسِكَها، "إلَّا أن يُراجِعَ"، أي: إلَّا أن يَترُكَ تلك الفُرقةَ، ويَرجِعَ للجَماعةِ فتَرجِعَ له رِبْقةُ الإسلامِ، "ومَن ادَّعى دَعْوى الجاهليَّةِ"، أي: نادَى في الإسلامِ بأيِّ ادِّعاءٍ كان في الجاهليَّةِ، وقد سبَق ونهَى عنه الإسلامُ، كالحَمِيَّةِ والعصَبيَّةِ الَّتي كانوا يُنادون بها في نُصرَةِ بَعضِهم البعضِ؛ "فإنَّه مِن جُثَى جَهنَّمَ"، أي: مَن دَعا بهذه الدَّعواتِ الجاهليَّةِ يَدخُلُ جهنَّمَ على رُكبَتَيه، أو هو مِن الجَماعاتِ الَّتي تُقذَفُ في النَّارِ، فقال رجلٌ: "يا رسولَ اللهِ، وإنْ صلَّى وصام؟"، أي: حتَّى هذا الوعيدُ لِمَن كان له صَلاةٌ وصيامٌ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "وإنْ صلَّى وصام؛ فادْعوا بدَعْوى اللهِ الَّذي سمَّاكم المسلِمين المؤمنين، عبادَ اللهِ"، أي: فَلْتَكُنْ دَعْواكم للإسلامِ ونُصْرتِه كما أمَرَكم اللهُ، ولا تَدْعوا بدَعْوى الجاهليَّةِ الَّتي هي خِلافُ ما جاء به الإسلامُ
وفي الحديثِ: بيانُ أنَّ عِبادةَ اللهِ وعدَمَ الإشراكِ به أهمُّ المهمَّات، وأوَّلُ المأموراتِ في جميعِ الرِّسالاتِ
وفيه: التَّرغيبُ في ذِكرِ اللهِ تعالى، والصَّلاةِ والصِّيامِ والصدقةِ، وبيانُ عظيمِ أجْرِ هذه الأعمالِ
وفيه: الحثُّ على لُزومِ الجَماعةِ وتعظيمِ شأنِها، والتحذيرُ مِن ترْكِها