باب فيما عنى به الطلاق والنيات

باب فيما عنى به الطلاق والنيات

هذا الحديث العظيم قاعدة من قواعد الإسلام، وأصل من أصول الشريعة، حتى قيل فيه: إنه ثلث العلم، حيث قال فيه صلى الله عليه وسلم: «الأعمال بالنية»، فلا تصح جميع العبادات الشرعية إلا بوجود النية فيها، «ولكل امرئ ما نوى»، فإنما يعود على المسلم من عمله ما قصده منه، وهذا الحكم عام في جميع الأعمال من العبادات والمعاملات والأعمال العادية، فمن قصد بعمله منفعة دنيوية لم ينل إلا تلك المنفعة ولو كان عبادة، فلا ثواب له عليها، ومن قصد بعمله التقرب إلى الله تعالى وابتغاء مرضاته، نال من عمله المثوبة والأجر ولو كان عملا عاديا، كالأكل والشرب، ثم ضرب صلى الله عليه وسلم الأمثلة العملية لبيان تأثير النيات في الأعمال فبين أن من قصد بهجرته امتثال أمر ربه، وابتغاء مرضاته، والفرار بدينه من الفتن؛ فهجرته هجرة شرعية مقبولة عند الله تعالى ويثاب عليها لصدق نيته، وأن من قصد بهجرته منفعة دنيوية وغرضا شخصيا، من مال، أو تجارة، أو زوجة حسناء؛ «فهجرته إلى ما هاجر إليه»، فلا ينال من هجرته إلا تلك المنفعة التي نواها، ولا نصيب له من الأجر والثواب.

أمر الله عز وجل بالصدق، وجعل النجاة في الدنيا والآخرة منوطة به، حتى وإن بدا في ظاهر الأمر أن فيه الهلاك لصاحبه، وحرم الكذب، وجعله طريق الخسران والبوار في الدنيا والآخرة، حتى وإن بدا في ظاهر الأمر أن فيه النجاة
وفي هذا الحديث يروي عبد الله بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك رضي الله عنه قصة تخلفه عن غزوة تبوك، وكان كعب بن مالك رضي الله عنه قد كف بصره في آخر حياته، وكان ولده عبد الله قائده، وغزوة تبوك آخر غزوة خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وكانت في رجب سنة تسع من الهجرة، وكانت مع الروم، وتبوك في أقصى شمال الجزيرة العربية، وتقع في شمال المدينة على بعد 700 كم
ويحكي كعب بن مالك رضي الله عنه أنه لم يكن من عادته التخلف عن الجهاد؛ فهو رضي الله عنه قد حضر جميع غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتغيب عن غزوة منها عدا غزوة بدر، وكانت في السنة الثانية من الهجرة، بين المسلمين وكفار قريش، وقد نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا تخلف عن هذه الغزوة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج من المدينة لم يخرج لقتال، وإنما خرج ليتصدى لقافلة قريش التجارية، ويستولي عليها لمصلحة المسلمين، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم العير، واختار الله له النفير، فكان القتال
ثم ذكر رضي الله عنه أنه إذا كان قد غاب عن غزوة بدر، فإن الله قد عوضه عنها بحضور بيعة العقبة الثانية؛ وذلك لأن هذه البيعة كانت في أول الإسلام، ومنها فشا الإسلام، وتأكدت أسبابه وأساسه، وكان يعتز بها كثيرا ويقول: وإن كانت غزوة بدر أكثر شهرة وذكرا في الناس من بيعة العقبة، وكانت البيعة قبل الهجرة بثلاثة أشهر تقريبا، وكان ذلك عند جمرة العقبة بمنى، وهي التي بايع الأنصار فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وأن يؤووه وينصروه
ويخبر كعب رضي الله عنه أنه عندما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك، لم يكن عنده عذر ألبتة في أن يتخلف عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد جمع بين القوة في البدن، والسعة في المال، ولم يجتمع عنده دابتان مهيأتان للسفر من قبل إلا في هذه الغزوة، وقد أفصح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهته في هذه الغزوة، على خلاف عادته صلى الله عليه وسلم من قبل في جميع غزواته؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم من عادته: أنه لا يريد غزوة إلا ورى بغيرها، أي: أوهم أنه يريد غيرها، والتورية: أن تذكر لفظا يحتمل معنيين، أحدهما أقرب من الآخر، فيوهم المتحدث إرادة القريب، وهو في الحقيقة يريد البعيد. وقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حقيقة وجهته في هذه الغزوة؛ ليتأهبوا للأمر؛ إذ كانت غزوة تبوك في حر شديد، وسيقطع المسلمون خلالها مسافة كبيرة وصحراء شاسعة لا ماء فيها، وكان هدفها غزو الروم، وقد تجمع الروم في أعداد كثيرة، وتأهبوا للقتال، فكان لا بد من إعلام الناس حتى يعدوا للأمر عدته، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه للخروج، وتخلف كعب بن مالك رضي الله عنه، ويذكر كعب رضي الله عنه أن المسلمين كان عددهم كبيرا -كانوا يزيدون عن عشرة آلاف، وقيل: العشرة آلاف كانوا الفرسان، أما إجمالي الجيش فقد زاد عن ثلاثين ألفا- ولا يوجد كتاب يجمع ويحفظ أسماء المجاهدين حينئذ، فمن أراد التخلف عن الخروج ظن أنه سيخفى، ولن ينكشف حاله، ما لم ينزل وحي من الله عز وجل يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بحال من غاب عن الخروج؛ لكثرة الجيش
ويخبر كعب بن مالك رضي الله عنه أن هذه الغزوة كانت حين طابت الثمار والظلال؛ فكان الباعث على التثاقل أشد وأقوى في النفوس، فمن ظل وثمر في المدينة، إلى حر شديد، ومكاره السفر، والتنقل عبر الصحراء. وأعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عدته للغزو، وتجهز المسلمون معه، وكان كعب بن مالك رضي الله عنه يخرج صباحا ليتجهز معهم، ولكنه كان متثاقلا يقضي يومه ويعود دون أن ينجز شيئا، ويصبر نفسه بأنه قادر على أن ينجز ما يريد إعداده من عتاد السفر وعدة القتال قبل أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج، وما زال في الوقت سعة، حتى أسرع الناس واجتهدوا في السير، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم يقض كعب رضي الله عنه من جهازه شيئا، فقال لنفسه: أتجهز بعد خروجهم في يوم أو يومين، وألحقهم في الطريق
وخرج في أول اليوم بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتجهز، فعاد دون أن يفعل شيئا، وفي اليوم التالي فعل مثل ذلك، وظل حاله هكذا حتى تفارط الغزو، أي: حتى تقدم الغزاة، وتباعدت المسافة فيما بينه وبينهم، وفي أثناء ذلك قصد كعب رضي الله عنه أن يخرج إليهم فيدركهم في الطريق، ولكنه لم يفعل، ولم يشأ الله له هذا، وتمنى كعب أن لو كان خرج بالفعل
ويحكي كعب رضي الله عنه أنه بعد أن ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا خرج في المدينة ومشى في الناس، يحزن؛ لأنه لا يرى من الرجال إلا منافقا مغموصا عليه النفاق، أي: متهما بالنفاق مطعونا عليه في دينه، وقيل: معناه: مستحقرا، أو يجد رجلا من أصحاب الأعذار الذين عذرهم الله عز وجل، كالضعفاء، والمرضى، والفقراء الذين لم يجدوا ما يخرجون به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يتذكر النبي صلى الله عليه وسلم كعبا رضي الله عنه، حتى وصل تبوك، وهناك سأل عنه، فرد رجل من بني سلمة -وهو عبد الله بن أنيس السلمي رضي الله عنه، وبنو سلمة: قوم كعب بن مالك رضي الله عنه- فقال: «يا رسول الله، حبسه برداه ونظره في عطفه»، العطف: الجانب، يتهم كعبا رضي الله عنه بأن الذي حبسه إعجابه بنفسه وكبره، فرد معاذ بن جبل رضي الله عنه غيبته، ودافع عنه، وأثنى عليه، وذكر أنهم ما علموا عن كعب رضي الله عنه إلا خيرا، فلم يكن يوما متكبرا، ولا معجبا بنفسه، ولا متخلفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن هناك عذرا منعه، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا
ويذكر كعب رضي الله عنه أنه لما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى المدينة راجعا، تجمع عليه الهم والحزن؛ حياء من لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تخلفه، وأخذ يعد العذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء، ويهيئ الكلام، ويحضره الكذب فيما يعده من أعذار، واستعان في ذلك بأصحاب الرأي والمشورة من أهله
فلما تأكد له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دنا واقترب قدومه، زال عنه الباطل، أي: الكذب الذي هم أن يعتذر به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيقن أنه لن يخرجه من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عذر فيه كذب، فعقد وعزم على ألا يقول إلا الصدق؛ فلن ينجيه إلا الصدق
وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقيل: كان قدومه في شهر رمضان، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم إذا رجع من سفر بدأ بالمسجد، فيصلي فيه ركعتين، ويجلس بعض الوقت في أصحابه قبل أن يدخل بيته، فجاءه المخلفون الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا يظهرون له صلى الله عليه وسلم الأعذار، ويحلفون أنهم صادقون فيما اعتذروا به، وكان عدد من تخلف من الأنصار بضعة وثمانين رجلا، والبضع العدد من ثلاث إلى تسع، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عذرهم على ظاهر قولهم، وترك حقيقة أمرهم وما يضمرونه لله عز وجل، وقيل: إن المعذرين من الأعراب من غير الأنصار كانوا أيضا اثنين وثمانين رجلا من غفار وغيرها، وأن عبد الله بن أبي ومن أطاعه من قومه من غير هؤلاء كانوا كثيرا
وجاء كعب بن مالك رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، فتبسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم من يظهر عليه الغضب، ودعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم كعب حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله صلى الله عليه وسلم عن سبب تخلفه عن الغزو، وذكر له صلى الله عليه وسلم أنه كان قد اشترى راحلته، وأعدها للخروج، فلماذا تخلف؟ فلم يكذب كعب بن مالك رضي الله عنه عندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب تخلفه؛ بل أجابه بكل صدق أنه لم يكن يوجد ما يمنعه من التخلف؛ أملا أن يكون الصدق له منجاة من غضب الله ورسوله عليه. وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لو جلس عند أي أحد من أهل الدنيا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لاستطاع أن يخرج من غضبه بعذر يقبله ويرضيه؛ فقد أعطي جدلا، أي: فصاحة وقوة كلام، بحيث يخرج من عهدة ما ينسب إليه مما يقبل ولا يرد، قال: ولكني والله، لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه -أي: تغضب علي فيه- إني لأرجو فيه عفو الله، ثم صارح رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقيقة أمره، قائلا: لا والله، ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر -من اليسار، وهو الغنى وسعة العيش- مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك»، أي: يحكم الله في أمرك وشأنك
وقام كعب رضي الله عنه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليه رجال من أهله من بني سلمة، ولاموه أشد اللوم على ما فعل، وذكروا له أنه كان ينبغي عليه أن يعتذر لرسول الله بأي عذر كما اعتذر المخلفون غيره، وأن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم له كما استغفر لغيره، كاف له في محو خطيئته وتكفير ذنبه، وتأثر كعب رضي الله عنه بكلامهم، وهم أن يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيغير كلامه الذي قاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن عصمه الله عز وجل؛ وذلك بأن سأل: هل فعل أحد، وتخلف عن الغزوة وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري؟ قالوا: نعم، رجلان؛ هما: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، رضي الله عنهما، قالا كما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفس الجواب الذي أجابه لك. فذكر كعب رضي الله عنه صلاح هذين الرجلين، وأنهما قد شهدا بدرا، وهو بيان وتأكيد لمدى فضلهما، وأن فيهما قدوة في المضي في طريق الحق، وفي الثبات على الصدق
ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن التكلم مع الثلاثة: كعب، ومرارة، وهلال رضي الله عنهم، فاجتنبهم جميع الناس، ولم يكلمهم أحد، فاعتزل مرارة وهلال رضي الله عنهما يبكيان في دارهما، وأما كعب رضي الله عنه، فكان أقوى من الرجلين، وأكثر منهما صبرا وجلدا، فكان يمشي بين الناس ويشهد صلاة الجماعة، ويطوف في الأسواق دون أن يتكلم معه أحد، ويخبر أنه تغير عليه كل شيء، حتى الأرض التي يمشي عليها تغيرت، فما هي الأرض التي يعرفها، وظل على هذه الحال خمسين يوما
ويحكي كعب رضي الله عنه بعض المواقف التي حدثت معه؛ فيذكر أنه كان يشهد الصلاة ويأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في مجلسه بعد الصلاة، فلا يدري هل حرك صلى الله عليه وسلم شفتيه ورد عليه السلام أم لا؟ وإنما لم يجزم كعب بتحريكه صلى الله عليه وسلم شفتيه بالسلام؛ لأنه لم يكن يديم النظر إليه خجلا، ويذكر أنه كان يصلي قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية، فإذا أقبل كعب على صلاته نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا التفت كعب رضي الله عنه نحو النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنه.
ويحكي رضي الله عنه أنه لما طال به إعراض الناس عنه، حاول أن يتكلم مع ابن عمه -يعني من أهله بني سلمة- وأحب الناس إليه؛ أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، فتسور حائط حديقته، أي: علا جدار بستان أبي قتادة رضي الله عنه، ثم سلم عليه، فلم يرد عليه أبو قتادة رضي الله عنه السلام؛ لعموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامه، وسأله كعب بالله عز وجل: هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فلم يرد عليه، فكرر كعب عليه السؤال، فلم يرد عليه، فكرره  فلم يرد عليه سوى بقوله: «الله ورسوله أعلم»، وليس ذلك تكليما لكعب رضي الله عنه؛ لأنه لم يجبه إلى سؤاله؛ بل أظهر اعتقاده في علم الله ورسوله لكل شيء، ولما رآى كعب رضي الله عنه من ابن عمه ما رأى، فاضت عيناه بالدمع باكيا لحاله الذي وصل إليه، وعاد فتسور جدار الحديقة ورجع، فلم يدخل أو يخرج من الباب، ولكنه دخل خفية خوفا وخجلا من الناس
وذكر كعب رضي الله عنه أنه بينما يمشي بسوق المدينة، وجد نبطيا من الشام -يعني: رجلا فلاحا- وكان نصرانيا قدم ليبيع طعاما بسوق المدينة، وجده كعب رضي الله عنه يسأل عنه باسمه قائلا: من يدل على كعب بن مالك؟ فأخذ الناس يشيرون له إلى كعب رضي الله عنه، ولا يتكلمون؛ مبالغة في هجره والإعراض عنه، حتى جاءه هذا النبطي، فأعطاه كتابا من ملك غسان -هو جبلة بن الأيهم، أو هو الحارث بن أبي شمر، وغسان قيل: إنها ماء باليمن قرب سد مأرب- يدعوه في كتابه هذا إلى ترك النبي صلى الله عليه وسلم، وترك أصحابه، منتهزا تلك الفرصة؛ ليفتن كعب بن مالك رضي الله عنه عن دينه، وكتب له في هذا الكتاب: «أما بعد؛ فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك»، والمعنى: أنه وصلنا أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- قد قاطعك، ولم يرد الله لك أن تكون بدار ضعف وحقارة، ولا دار يضيع فيها حقك؛ فأت إلينا نخفف من حزنك ومصابك. فلما قرأ كعب رضي الله عنه هذه الصحيفة، قال: هذا والله من البلاء، وذهب بها إلى التنور -وهو الفرن الذي يخبز فيه- وأشعله بها فجعلها مع الحطب الذي يوقد به، وهذا يدل على قوة إيمانه، وشدة محبته لله ورسوله على ما لا يخفى.
فلما مضت أربعون ليلة من الخمسين، جاءه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتزال امرأته عميرة بنت جبير بن صخر بن أمية الأنصارية أم أولاده الثلاثة، أو هي زوجته الأخرى خيرة، وألا يقربها، ولا يباشرها، وكذا الحال بالنسبة إلى صاحبيه مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية رضي الله عنهم، فذهبت امرأة هلال رضي الله عنهما -واسمها خولة بنت عاصم- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنته في أن تخدم هلالا رضي الله عنه؛ لكونه شيخا كبيرا يحتاج من يخدمه، وقاصرا عن القيام بشؤون نفسه، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تظل معه وتخدمه، شريطة ألا يباشرها مباشرة الأزواج، فأكدت امرأة هلال للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يقربها منذ أن ابتلاه الله بهذا البلاء، وما زال على حال يبكي فيها نفسه
ويذكر كعب بن مالك رضي الله عنه أنه لما جاءه الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتزال امرأته، أمرها أن تذهب إلى أهلها، فتبقى عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، ويحكي أن بعض أهله قالوا له: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، أي: تخدمك وتقوم على شأنك، كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقال: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب؟! يعني أقوى على خدمة نفسي
واستشكل هذا القول مع نهيه صلى الله عليه وسلم الناس عن كلام الثلاثة، وأجيب بأن النهي عن المكالمة لم يكن عاما لكل أحد؛ بل هو شامل لمن لا تدعو حاجة هؤلاء إلى مخالطته، ولكلامه من زوجة وخادم ونحو ذلك؛ بدليل بقاء زوجاتهم معهم حتى هذا الحين، واستئذان زوجة هلال رضي الله عنهما في خدمته، فنهاها صلى الله عليه وسلم عن أن يقربها، وأباح لها خدمته كما كانت تخدمه، ولا بد في ذلك من مخالطة وكلام، فلعل الذي قال لكعب من أهله ممن له أن يكلمه
ويحكي كعب رضي الله عنه أنه لما صلى صلاة الفجر صبح خمسين ليلة من المقاطعة والهجران، وهو على تلك الحالة التي وصفها الله عز وجل بقوله: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم} [التوبة: 118]، قد ضاقت عليهم أنفسهم، أي: قلوبهم، فلا يسعهم أنس ولا سرور من فرط الوحشة والغم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، أي: مع سعتها، وهو مثل للحيرة في أمره، كأنه لا يجد فيها مكانا يقر فيه، فبينما كعب رضي الله عنه هكذا، إذ سمع صوت رجل ينادي بأعلى صوته، صعد فوق جبل سلع، وهو جبل بالمدينة، وصار ينادي: يا كعب بن مالك أبشر، فخر كعب رضي الله عنه ساجدا حمدا لله تعالى، وشكرا له على توبته عليه، وعلم أنه قد جاء الفرج من الله عز وجل، وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله على الثلاثة المخلفين، وذهب الناس يبشرونهم بتوبة الله عليهم، فذهب إلى صاحبيه مرارة وهلال رضي الله عنهما مبشرون بذلك، وأسرع الزبير بن العوام رضي الله عنه على فرس له إلى كعب رضي الله عنه، وصعد رجل من قبيلة أسلم -قيل: هو حمزة بن عمرو الأسلمي- على جبل وصرخ بصوته مبشرا له، قال كعب: وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاء صاحب الصوت -حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه- إلى كعب رضي الله عنه، نزع له كعب ثوبه وأعطاه له هدية ومكافأة على بشراه له، قال كعب: والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس وهو في طريقه إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يقابلونه أفواجا يهنئونه بتوبة الله عليه، فلما دخل المسجد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، والناس حوله، فبادر إليه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول -وهو السير بين المشي والجري- فصافحه وهنأه، قال كعب رضي الله عنه: ولا أنساها لطلحة، أي: ولا أنسى هذا الموقف لطلحة، وهذا الإحسان منه إلي، واقترب كعب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في شدة الفرح: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك»، أي: سوى يوم إسلامه، وهو مستثنى تقديرا، وإن لم ينطق به صلى الله عليه وسلم، أو أن يوم توبته مكمل ليوم إسلامه؛ فيوم إسلامه بداية سعادته، ويوم توبته مكمل لهذه السعادة، فهو خير من جميع أيامه، وإن كان يوم إسلامه خيرها
فسأل كعب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، بل من عند الله». ويذكر كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حصل له سرور، استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، قيل: السر في التقييد بالقطعة مع كثرة ما ورد في كلام البلغاء من تشبيه الوجه بالقمر من غير تقييد؛ احترازا من السواد الذي في القمر، أو إشارة إلى موضع الاستنارة، وهو الجبين الذي فيه يظهر السرور، قال: وكنا نعرف ذلك منه صلى الله عليه وسلم، أي: نعرف الذي يحصل له من استنارة وجهه عند السرور
وأراد كعب أن يتصدق بماله كله في سبيل الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يمسك عليه بعض ماله، أي: يتصدق بالبعض فقط، ويبقي عنده شيئا من ماله؛ لكي ينفق به على نفسه وعياله؛ خوفا عليه من تضرره بالفقر، فقال كعب رضي الله عنه: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، وكانت خيبر قرية يسكنها اليهود، وكانت ذات حصون ومزارع على بعد 173 كيلو تقريبا من المدينة إلى جهة الشام، فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة
وعاهد كعب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يتحدث إلا بالصدق أبدا ما بقي حيا؛ فما نجاه الله عز وجل إلا بالصدق، قال كعب رضي الله عنه ذاكرا نعمة الله عليه: «فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أحسن مما أبلاني»، والبلاء والإبلاء يكون في الخير والشر، لكن إذا أطلق كان للشر غالبا، فإذا أريد الخير قيد كما قيده هنا، والمعنى: ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى بصدق الحديث إبلاء أحسن مما أبلاني الله تعالى به من وقت ذكري ذلك الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا الذي أتحدث فيه الآن. وأخبر كعب رضي الله عنه أنه ما تعمد أن يكذب كذبا منذ أن ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم أن حدث بهذا الحديث، وإنه ليرجو أن يحفظه الله فيما بقي من عمر، ويظل ملازما الصدق
وأنزل الله عز وجل قوله: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 117- 119]، ويحلف كعب رضي الله عنه: فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا؛ فقد قال الله عز وجل لمن كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتذر بالأعذار المختلقة، قال لهم شر القول الكائن لأحد من الناس: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التوبة: 95، 96]، وأخبر كعب رضي الله عنه أنه تخلف هو وصاحباه هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم، عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له أن تخلفهم كان لعذر، فبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغفر لهم، وأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا نحن الثلاثة حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا}، فليس معنى {الذين خلفوا}، أي: تخلفوا عن الغزو، وإنما المعنى: الذين أخر النبي عليه الصلاة والسلام الحكم في أمرهم إلى أن يحكم الله تعالى فيهم، بخلاف من حلف له صلى الله عليه وسلم واعتذر إليه، فقبل منه صلى الله عليه وسلم
وفي الحديث: فائدة الصدق، وعاقبته الحميدة
وفيه: التبشير بالخير، والتهنئة بالنعمة، كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأن إعطاء البشير من مكارم الأخلاق والشيم وعادة الأشراف.
وفيه: تهنئة من تجددت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل ومصافحته.
وفيه: أن خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها، يوم توبته إلى الله وقبول الله توبته.
وفيه: فضيلة أهل بدر والعقبة.
وفيه: عظم أمر المعصية، والتشديد في أمرها، وأنها تهلك صاحبها إن لم يدركه الله بتوبة.
وفيه: إخبار المرء عن تقصيره وتفريطه.
وفيه: مشروعية التصريح بجهة الغزو إذا لم تقتض المصلحة ستره.
وفيه: أن الإمام إذا استنفر الجيش عموما لزمهم النفير، ولحق اللوم بكل فرد إن تخلف.
وفيه: أن العاجز عن الخروج بنفسه أو بماله لا لوم عليه.
وفيه: مشروعية مدح المرء بما فيه من الخير إذا أمنت الفتنة.
ومنها: تسلية المرء نفسه عما لم يحصل له بما وقع لنظيره.
وفيه: مشروعية التورية عن المقصد.
وفيه: فضل رد الغيبة عن المسلم.
وفيه: مشروعية استعارة الثياب.
وفيه: دليل على عدم تصدق الإنسان بجميع ماله؛ حتى لا يبقى عالة على غيره.
وفيه: مصافحة القادم، والقيام له إكراما، والهرولة إلى لقائه بشاشة وفرحا.
وفيه: أن الإمام لا يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور؛ بل يذكره ليراجع التوبة.
وفيه: الحكم بالظاهر، وقبول المعاذير.
وفيه: ترك السلام على من أذنب، ومشروعية هجره أكثر من ثلاث بقصد رجوعه عن الذنب، وأما النهي عن الهجر فوق ثلاث فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعيا.
وفيه: بيان فائدة الصدق، وشؤم عاقبة الكذب.