باب قوله: {وتقول هل من مزيد}
بطاقات دعوية
عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
«تحاجت (وفى رواية ثان: اختصمت 8/ 186) الجنة والنار [إلى ربهما] , فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي [مالى] لا يدخلنى إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتى أرحم بك من أشاء من عبادى، وقال للنار: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادى، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار (وفى طريق ثالث): يقال لجهنم: هل امتلأت) [فتقول: هل من مزيد (ثلاثا)]، فلا تمتلئ حتى يضع [الرب تبارك وتعالى] رجله (وفى طريق ثالث: قدمه) [عليها. وفى طريق: فيها] , فتقول: قط، قط، [قط]، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله - عز وجل - من خلقه أحدا، وأما الجنة (وفى طريق: النار) (181)؛ فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا».
قَدَّر اللهُ سُبحانه وتعالَى المَقادِيرَ قبْلَ أنْ يَخلُقَ السَّمواتِ والأرضَ، وكَتَب العذابَ بالنَّارِ على العَاصِينَ والكَافِرِينَ، وأَوْجَب الجنَّةَ لعِبادِه الطَّائِعين المُؤمِنين.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الجَنَّةَ والنَّارَ اخْتَصَمَتا عندَ خالقِهما سُبحانه وتعالَى في سُكَّانِ كُلٍّ منهما، وهذه المُحاجَّةُ جاريةٌ على التَّحقيقِ؛ فإنَّه تعالَى قادرٌ على أنْ يَجعَلَ كُلَّ واحدةٍ منهما مُميَّزةً مُخاطَبةً، فقالت النَّارُ: أُوثِرْتُ بالمتكبِّرين والمُتَجبِّرين، أي: اخْتُصِصْتُ بأهلِ الكِبر والتَّجبُّر، وقالت الجنَّةُ: «ما لي لا يَدخُلني إلَّا ضُعَفاءُ النَّاسِ وسَقَطُهم؟» أي: السَّاقِطون مِن أَعيُنِ النَّاسِ لفقرِهم وضَعفِهم، فقال اللهُ تَبارَك وتعالَى للجنَّةِ: «أَنْتِ رَحْمَتِي، أَرْحَمُ بك مَن أَشاءُ مِن عِبادي، وقال للنَّارِ: إنَّمَا أنتِ عَذابِي، أعذِّب بك مَن أَشاءُ مِن عِبادي»، ولكلِّ واحدةٍ منهما ما تَمْتَلِئُ به من سُكَّانِها، ولكنْ بيْن السَّاكِنين تَفاوُتٌ عَظيمٌ؛ فأمَّا النارُ فلا تَمْتَلِئُ حتَّى يَضَعَ الجَبَّارُ رِجْلَه فيها فتَقُول: «قَطْ قَطْ»، أي: كَفَى كَفَى، فهُنا تَمتلِئُ ويُزْوَى بَعضُها إلى بعضٍ، أي: يَجْتَمِع ويَلْتَقِي بعضُها ببعضٍ على مَن فيها، ولا يَظلِمُ اللهُ عزَّ وجلَّ مِن خَلْقِه شيئًا.
وأمَّا الجنةُ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُنشِئُ لها أناسًا لم يَعْمَلوا خيرًا، فيُدخِلُهم إيَّاها، وهذا فضلٌ مِن اللهِ تعالَى، قيل: في هذا دَليلٌ على أنَّ أصْلَ دُخولِ الجنَّةِ ليس في مُقابَلَةِ عَمَلٍ.
وقد سمَّى الجنَّةَ رحْمةً؛ لأنَّ بها تَظْهَرُ رحْمةُ اللهِ، وسمَّى النَّارَ عذابًا؛ لأنَّها تُظهِرُ عَذابَ اللهِ وشِدَّتَهُ على العُصاةِ، وإلَّا فرحْمةُ اللهِ وعَذابُهُ مِن صِفاتِهِ التي لم يَزَلْ بها مَوصوفًا، ليس للهِ تعالى صِفَةٌ حادِثَةٌ، ولا اسمٌ حادِثٌ، فهو قَديمٌ بجميعِ أسْمائِهِ وصِفاتِهِ جلَّ جلالُهُ، وتقدَّسَتْ أسماؤُهُ.
وفي الحَديثِ: بيانُ قُدرةِ اللهِ سُبحانَه وأنَّه لا يُعجِزُه شيءٌ وأنَّ رحمتَه واسعةٌ وعذابَه شديدٌ.
وفيه: إثباتُ صِفةِ الرِّجلِ والقَدَمِ له سُبحانه وتعالى، وأهلُ السُّنَّةِ يُثبِتون لله ما جاء في هذا الحَديثِ على حقيقتِه، كما يُثبِتون سائِرَ الصِّفاتِ من غيرِ تشبيهٍ ولا تكييفٍ.