باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة3
سنن الترمذي
حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال: حدثنا سلمة بن رجاء قال: حدثنا الوليد بن جميل قال: حدثنا القاسم أبو عبد الرحمن، عن أبي أمامة الباهلي، قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»
للعُلماءِ فضلٌ وأجرٌ عظيمٌ؛ وذلك بما مَنَّ اللهُ عليهم مِن العِلمِ الذي تَعلَّموه ويَنشُرونَه في النَّاسِ، فيَرفَعون بهم جَهْلَهم، ويَقودُهم نحوَ مَعالِمِ الخيرِ الَّتي يَصلُحُ بها شأنُ دينِهم ودُنياهم.
وفي هذا الحديثِ يَحكي أبو أُمامةَ الباهليُّ رضِيَ اللهُ عَنه: أنَّه "ذُكِر لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم رَجُلانِ أحَدُهما عابدٌ، والآخَرُ عالِمٌ"، أي: هل هُما مُستَوِيان في الفَضلِ والأجرِ؛ هذا بعِبادتِه، وهذا بعِلمِه؟ "فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: فضلُ العالِمِ"، أي: إنَّ له مِن الأجرِ والثَّوابِ ما يَفضُلُ ويَزيدُ "على العابِدِ"، والمرادُ بالعالِمِ: هو صاحبُ العُلومِ الشَّرعيَّةِ مع قيامِه بما يَستَلزِمُ ذلك مِن عباداتٍ بدَنيَّةٍ مِن صلاةٍ وصومٍ، ونحوِ ذلك، وقَلبيَّةٍ مِن خشوعٍ وتَوكُّلٍ، ونحوِ ذلك، والمرادُ بالعابِدِ: المجتهِدُ في العبادةِ، وقد حصَّل قبلَ ذلك ما يَلزَمُه مِن عِلمٍ شرعيٍّ فيما يَخُصُّه مِن عِباداتٍ مأمورٍ بها أو يَفعَلُها تطَوُّعًا، ثمَّ بيَّن النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم الفرْقَ بينَ الاثنينِ، فقال: "كفَضْلي على أَدْناكم"، أي: إنَّ العالِمَ يتَقدَّمُ في الشَّرَفِ والرِّفْعةِ على العابِدِ، كتَقدُّمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم على أدْنَى أصحابِه رضِيَ اللهُ عَنهم، وفي هذا مبالغة شديدة في بيان فضل العالِمِ؛ إذ إنَّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لو قال: كفَضْلي على أَعْلاكم لكَفَى فضلًا وشرَفًا، فكيفَ وقد قال كفَضْلِي على أدْناكم؟!
"ثمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم"، أي: استأنَف الكلامَ لِيُبيِّنَ سببَ هذا التَّفضيلِ قائلًا: "إنَّ اللهَ ومَلائِكتَه وأهلَ السَّمواتِ"، قيل: المرادُ بالملائكةِ: هم حَملَةُ العَرشِ، والمرادُ بأهلِ السَّمواتِ: باقِي الملائكةِ، "والأرضِ"، أي: وأهلَ الأرضِ، والمرادُ بهم: الإنسُ والجنُّ وجميعُ الحيواناتِ، "حتَّى النَّملةَ في جُحْرِها"، أي: مَسْكَنِها في باطنِ الأرضِ، وقيل: ثَقْبِها الَّذي تَأْوي إليه أينَما وُجِد، "وحتَّى الحوتَ"، أي: الَّذي يكونُ في أعالي البِحارِ، "لَيُصَلُّون"، أي: يَدْعون بالخيرِ، "على مُعلِّمِ النَّاسِ الخيرَ"، أي: للعالِمِ؛ وذلك لِنَشرِه للعِلمِ بينَ النَّاسِ، والمرادُ بالخيرِ هنا: هو عِلمُ الدِّينِ الَّذي هو أنفَعُ لهم وما به النَّجاةُ، قيل: وفي هذا إشارةٌ إلى وجهِ الأفضليَّةِ بأنَّ نفْعَ العِلمِ مُتعَدٍّ ونفْعَ العبادةِ قاصِرٌ، مع أنَّ العِلْمَ في نفسِه فرضٌ، وزيادةَ العبادةِ نافلةٌ.
وفي هذا الحديثِ: الحثُّ على تعليمِ النَّاسِ الخيرَ.
وفيه: الحَثُّ على الحِرصِ على العِباداتِ المتعدِّيةِ في النَّفعِ للغيرِ.
وفيه: بيانٌ لِتَفاوُتِ الصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عَنهم بعضِهم على بعضٍ في الأفضليَّةِ.