باب ما جاء في كفارة الظهار
سنن الترمذى
حدثنا إسحاق بن منصور قال: حدثنا هارون بن إسماعيل الخزاز قال: حدثنا علي بن المبارك قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير قال: حدثنا أبو سلمة، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، أن سلمان بن صخر الأنصاري، أحد بني بياضة جعل امرأته عليه كظهر أمه حتى يمضي رمضان، فلما مضى نصف من رمضان وقع عليها ليلا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعتق رقبة»، قال: لا أجدها، قال: «فصم شهرين متتابعين»، قال: لا أستطيع، قال: «أطعم ستين مسكينا»، قال: لا أجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفروة بن عمرو: «أعطه ذلك العرق وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعا، أو ستة عشر صاعا إطعام ستين مسكينا»: «هذا حديث حسن» يقال: سلمان بن صخر، ويقال: سلمة بن صخر البياضي «والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم في كفارة الظهار»
الظهارُ أنْ يَقولَ أحَدُهم لزَوجتِه: أنتِ عليَّ كظَهرِ أُمِّي أو أُختي، وكان العرَبُ قبلَ الإسلامِ يَعُدُّون الظِّهارَ طَلاقًا، فتُطلَّقُ الزوجةُ الذي ظاهَرَ زوجُها منها، حتَّى أتَى الإسلامُ وشرَع لهم الطَّلاقَ، وجُعِلَ للظِّهارِ كفَّارةٌ إذا ما وقَع مِن أحَدِهم بَعدَ الإسلامِ.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ سَلمةُ بنُ صخرٍ الأنصاريُّ رضِيَ اللهُ عَنه: "كنتُ رجلًا قد أُوتيتُ مِن جِماعِ النِّساءِ ما لم يُؤتَ غيري"، أي: أوتيتُ مِن كَثرَتِه من القُوَّةِ على ذلك، "فلمَّا دخَل رمضانُ تَظاهَرتُ مِنِ امرَأتي"، أي: وقَع مِنه الظِّهارُ قاصِدًا بذلك الامتِناعَ عن جِماعِها لا مُفارَقَتَها، "حتَّى يَنسَلِخَ رَمضانُ"، أي: كان الظِّهارُ مُؤقَّتًا لمدَّةِ شهرِ رمَضانَ؛ "فرَقًا مِن أن أُصيبَ مِنها في ليلي"، أي: خوفًا مِن جِماعِها في اللَّيلِ، "فأتَتابَعَ في ذلك إلى أنْ يُدرِكَني النَّهارُ"، أي: أستَمِرَّ في جِماعِها إلى أنْ يَدخُلَ الفجرُ، "وأنا لا أقدِرُ أنْ أنزَعَ"، أي: ولا يَقدِرُ أن يَقومَ عنها ويتَوقَّفَ عَن جِماعِها، فتُفسِدَ عليه صومَه، "فبينَما هي"، أي: امرأتُه، "تَخدُمُني ذاتَ ليلةٍ؛ إذ تَكشَّف لي مِنْها شيءٌ"، أي: ظهَر له شيءٌ مِن مَفاتِنِها، "فوثَبتُ عليها"، وهذا كنايةٌ عن جِماعِه لها؛ وذلك بسبَبِ ما رأى مِنها، قال: "فلمَّا أصبحتُ غدَوتُ على قومي"، أي: أتاهم بالغَداةِ وهي الصَّباحُ، "فأخبَرتُهم خبَري"، أي: بما كان مِنه مِن ظِهارِه مِن امرأتِه، ثمَّ نَقْضِه بالجِماعِ، فقلتُ: "انطَلِقوا معي إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم فأُخبِرَه بأَمري"، أي: لِيَقضِيَ فيه بحُكمِ اللهِ، والظَّاهرُ أنَّه طلَب مِنهم أن يَأتوا معَه لِيَشفَعوا له عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فقال له قومُه: "لا واللهِ لا نَفعَلُ"، أي: لن نَذهَبَ معَك إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "نتَخوَّفُ أن يَنزِلَ فينا قرآنٌ، أو يَقولَ فينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مَقالةً يَبقَى عَلينا عارُها"، أي: خَشْيةَ أن يَأتِيَ فيهم عِتابٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ أو مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فتَكونَ عليهم عارًا، فتَبْقى فيهم ويُذْكَروا بها، "ولكِنِ اذهَبْ أنتَ"، أي: اذهَبْ وحْدَك إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "فاصنَعْ ما بَدا لك"، أي: اصنعْ ما ظهَرَ لك وتحَمَّلْ أنتَ شأْنَ ما فعَلتَ وحْدَك.
قال سَلمةُ رضِيَ اللهُ عنه: "فخَرَجتُ، فأتيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فأخبَرتُه خبَري"، أي: بما وقَع مِن ظِهارٍ وجِماعٍ، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أنتَ بذاك؟َ"، أي: أنت الَّذي يقَعُ مِنك ذلك، وهذا كنايةٌ عن عِتابِه الشَّديدِ على ما فعَل سَلمةُ، وانتِهاكِه لِما حرَّم اللهُ تعالى، قلتُ: "أنا بذاك"، أي: أنا الذي وقَع منه ذلك، كنايةً عن استِشْعارِه لعِتابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، ونَدمِه عليه، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أنت بذاك؟!"، قلتُ: "أنا بذاك"، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أنت بذاك؟"، أي: كلُّ ذلك عِتابٌ منه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم على ما فعَل سَلمةُ، قلتُ: "أنا بذاك، وها أنا ذا"، أي: موجودٌ ومُتحمِّلٌ لأثَرِ ما فعَلتُ، "فأمضِ فيَّ حُكمَ اللهِ"، أي: أجْرِ واقْضِ فيَّ بحُكمِ اللهِ وبما تراه؛ "فإنِّي صابرٌ لذلك"، أي: مستعينٌ بالصَّبرِ على ما سيُصيبُني مِن حُكمِ اللهِ تعالى، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أعتِقْ رَقبةً"، أي: إنَّ هذا كفَّارةُ ما فعَلتَ، والمرادُ بعِتْقِ الرَّقبةِ: تحريرُ مَملوكٍ ذكَرًا كان أو أنثى، قال سَلمةُ: "فضَرَبتُ صَفحَةَ عُنقي بيَدي"، أي: جانِبَ عُنقِه، فقلتُ: "لا والذي بعَثَك بالحقِّ، ما أصبَحتُ أملِكُ غيرَها"، أي: وفي ضرْبِه لجانِبِ عُنقِه كنايةٌ عن شِدَّةِ فَقرِه، وأنَّه لا يَملِكُ إلَّا نفْسَه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "فصُمْ شَهرَين"، أي: مُتتابِعَين بدَلًا مِن العتقِ، قلتُ: "يا رسولَ اللهِ، وهل أصابَني ما أصابَني إلَّا في الصِّيامِ؟!"، أي: مُتعذرًا عن كفَّارةِ الصِّيامِ خوفًا مِن أن يقَعَ في مِثلِها، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "فأطعِمْ سِتِّين مِسْكينًا"، أي: بدَلًا لكفَّارةِ صِيامِ الشَّهرَين، قلتُ: "والَّذي بعَثَك بالحقِّ، لقد بِتْنا ليلَتَنا هذه وَحْشَى"، أي: جائِعين، "ما لنا عَشاءٌ"، أي: لم نَطْعَمْ طَعامَ العَشاءِ، وهذا بيانُ لعدَمِ قُدرَتِه على إطعامِ السِّتِّين مِسْكينًا، قال: "اذهَبْ إلى صاحبِ صدَقةِ بَني زُرَيقٍ"، أي: العامِلِ الَّذي يَجمَعُ الزَّكاةَ والصَّدقاتِ مِن قَبيلةِ بَني زُريقٍ، وهم قومُ وقبيلةُ سَلمةَ بنِ صَخرٍ، "فقُل له فلْيدفَعْها إليك"، أي: لِيَدفَعْ زَكاتَهم وصدَقاتِهم وكانت تَمرًا، "فأطعِمْ عنك منها وَسْقًا سِتِّين مِسْكينًا"، أي: اصرِفْ بوَسْقٍ مِنها كفَّارةَ السِّتِّين مِسْكينًا، والوَسْقُ: سِتُّون صاعًا، والصَّاعُ: أربعةُ أمدادٍ، والمُد مِقْدارُ ما يَملَأُ الكَفَّين، وعليه فيكونُ لكلِّ مِسكينٍ صاعٌ، "ثمَّ استَعِنْ بسائرِه عليك وعلى عِيالِك"، أي: خُذْ ما تبَقَّى منه وأطعِمْه لنَفْسِك ولأهلِك، قال سَلمةُ: "فرجَعتُ إلى قومي، فقلتُ: وَجَدتُ عِندَكم الضِّيقَ وسُوءَ الرَّأيِ"؛ وذلك لأنَّهم ترَكوه وصَعَّبوا عليه أمْرَ ما فعَل، "ووجَدتُ عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم السَّعَةَ والبرَكةَ"؛ وذلك حينَما تَنزَّل معَه في الكَفَّاراتِ؛ حتَّى أعطاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أموالَ الزَّكاةِ الَّتي تُؤدِّي كفَّارتَه، ويَفيضُ مِنها ما يُطعِمُ به أهلَه؛ "أمَر لي بصَدَقتِكم؛ فادفَعوها إلَيَّ! فدفَعوها إليَّ".
وفي الحديثِ: إظهارُ الصَّبرِ عند البَلاءِ.
وفيه: العِتابُ والزجرُ لكلِّ مَن أتى بمعصيةٍ.
وفيه: الإسراعُ بالتوبةِ من المعصيةِ.
وفيه: بيانُ ما كان عندَ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم من تيسيرٍ ورفقٍ بمَن معه.
وفيه: أنَّ كفَّارة الظِّهارِ تأتي على الترتيبِ؛ فمَن لم يَستطعْ فليأتِ التي بعدَها.
وفيه: أنَّ الكفَّارةَ لا تسقُطُ بالعجزِ عن جميعِ أنواعِها، ولكن يُعانُ صاحبُها على قضائِها.