باب ما جاء في مثل الله لعباده2
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن جعفر بن ميمون، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم انصرف فأخذ بيد عبد الله بن مسعود حتى خرج به إلى بطحاء مكة فأجلسه ثم خط عليه خطا ثم قال: «لا تبرحن خطك فإنه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم فإنهم لا يكلمونك»، قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد، فبينا أنا جالس في خطي إذ أتاني رجال كأنهم الزط أشعارهم وأجسامهم لا أرى عورة ولا أرى قشرا وينتهون إلي، لا يجاوزون الخط ثم يصدرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان من آخر الليل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءني وأنا جالس، فقال: «لقد أراني منذ الليلة» ثم دخل علي في خطي فتوسد فخذي فرقد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رقد نفخ، فبينا أنا قاعد ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوسد فخذي إذا أنا برجال عليهم ثياب بيض الله أعلم ما بهم من الجمال فانتهوا إلي، فجلس طائفة منهم عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة منهم عند رجليه ثم قالوا بينهم: ما رأينا عبدا قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبي، إن عينيه تنامان وقلبه يقظان، اضربوا له مثلا مثل سيد بنى قصرا ثم جعل مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه ومن لم يجبه عاقبه - أو قال: عذبه - ثم ارتفعوا، واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك فقال: «سمعت ما قال هؤلاء؟ وهل تدري من هؤلاء»؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «هم الملائكة، فتدري ما المثل الذي ضربوا»؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «المثل الذي ضربوا الرحمن تبارك وتعالى بنى الجنة ودعا إليها عباده، فمن أجابه دخل الجنة ومن لم يجبه عاقبه أو عذبه»: " هذا حديث حسن غريب، من هذا الوجه وأبو تميمة هو الهجيمي واسمه: طريف بن مجالد. وأبو عثمان النهدي اسمه: عبد الرحمن بن مل. وسليمان التيمي قد روى هذا الحديث عنه معتمر وهو سليمان بن طرخان، ولم يكن تيميا وإنما كان ينزل بني تيم فنسب إليهم "، قال علي: قال يحيى بن سعيد: «ما رأيت أخوف لله تعالى من سليمان التيمي»
جعَل اللهُ النَّعيمَ بالجنَّةِ لِمَن أطاعَه، وجعَل العذابَ والعِقابَ في النَّارِ لِمَن عَصاه، وفي هذا الحديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضِيَ اللهُ عَنه: "صلَّى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم العِشاءَ ثمَّ انصرَف"، أي: مِن صَلاتِه، "فأخَذ بيَدِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ حتَّى خرَج به إلى بَطْحاءِ مَكَّةَ"، وبطحاءُ مكَّةَ: مكانٌ ذو حَصًى صغيرةٍ، وهو في الأصلِ مَسيلُ وادي مكَّة، وهو يَقُع جنوبَ الحرمِ الشريفِ أمامَ جَبلِ ثَور، "فأجلَسه"، أي: أجلَس النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ابنُ مسعودٍ، "ثمَّ خطَّ عليه خَطًّا"، أي: جعَل حولَه خَطًّا مَرسومًا في الأرضِ، ثمَّ قال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "لا تَبرَحَنَّ خَطَّك"، أي: لا تَترُكْ مَكانَك الذي أجلَستُك فيه، وقيل: إنَّ هذا الخطَّ علامةٌ للتَّحصينِ عليه مِن الجزَعِ والضَّررِ، وبه لن يَقدِرَ أحَدٌ مِن الخَلقِ على تَجاوُزِه إليه أو ضرِّه، "فإنَّه سيَنتَهي إليك رِجالٌ، فلا تُكلِّمْهم؛ فإنَّهم لا يُكَلِّمونك"، أي: سيَصِلُ إليك رِجالٌ ويُجاوِرونَك دونَ أن يُكلِّمَ بعضُكم بعضًا.
قال ابنُ مسعودٍ: "ثمَّ مَضى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم حيث أراد"، أي: ذهَب مُنصرِفًا تارِكًا ابنَ مَسعودٍ وحدَه، "فبينا أنا جالِسٌ في خطِّي"، أي: في المجلِسِ الَّذي أجلَسني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم فيه، "إذْ أتاني رجالٌ كأنَّهم الزُّطُّ أشعارُهم وأجسامُهم"، أي: إنَّ أشعارَهم وأجسادَهم مِثلُ الزُّطِّ، وهم: جِنسٌ مِن السُّودانِ، وقيل: الهُنودُ، "لا أرَى عَورةً ولا أرَى قِشرًا"، والقِشْرةُ غِشاءُ الشَّيءِ خِلْقةً أو عرَضًا، وكلُّ مَلبوسٍ، والمراد: ليس عَليهِم ثِيابٌ، ومع ذلك عَورتُهم ليسَت مُنكشِفةً، وهؤلاءِ هم قومٌ من الجنِّ جاؤوا إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كما قال الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ...} الآيات [الأحقاف: 29- 32]، وفي روايةٍ أخرى أنَّ ابنَ مسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه سأل النبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عنهم قائلًا: "مَن هؤلاءِ يا رسولَ اللهِ؟ قال: هؤلاء جِنُّ نَصِيبينَ، جاؤوا يَختصِمون إليَّ في أمورٍ كانتْ بينهم".
"ويَنتَهون إليَّ، ولا يُجاوِزون الخطَّ"، أي: انتهَوا إلى موضِعِ جُلوسي، ولكنْ لا يَقترِبون مِن الخطِّ، "ثمَّ يَصدُرون"، أي: يَرجِعون، "إلى رسولِ اللهِ، حتَّى إذا كان مِن آخِرِ اللَّيلِ، لكنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قد جاءَني وأنا جالِسٌ"، أي: حتَّى إذا كان مِن آخِرِ اللَّيلِ ما جاؤوا، ولكنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قد جاءني، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "لقد أُراني منذ اللَّيلةِ"، أي: لم أنَمْ في تلك اللَّيلةِ من أوَّلها؛ لأنِّي كنتُ مع هؤلاء القومِ، وقد ورَد في روايةٍ أخرى: "فسَمَر معهم رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليلًا طويلًا، حتَّى جاءني مع الفجرِ"، قال ابنُ مسعودٍ: "ثمَّ دخَل عليَّ في خطِّي فتوَسَّد فَخِذي ورقَدَ"، أي: مرَّ على الخطِّ الذي أَجلَسَ فيه ابنَ مسعودٍ ووضَع رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم رأسَه على فَخِذِه ونام، "وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم إذا رقَد نفَخ"، أي: ظهَر صَوتُ نفَسِه إذا اشتَدَّ في نومِه.
قال ابنُ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه:"فبَينا أنا قاعِدٌ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مُتوسِّدٌ فَخِذي، إذا أنا برِجالٍ"، أي: ظهَر له رِجالٌ، "عليهم ثِيابٌ بِيضٌ اللهُ أعلَمُ ما بهم مِن الجَمالِ، فانتَهَوا إليَّ"، أي: في سَيرِهم نحوَه، فجلَس طائفةٌ مِنهم عندَ رأسِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وطائفةٌ منهم عِندَ رِجْلَيه؛ ثمَّ قالوا بينَهم"، أي: قال بعضُهم لبعضٍ: "ما رأَينا عبدًا قطُّ أُوتِيَ مثلَ ما أُوتي هذا النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛ إنَّ عينَيه تَنامانِ وقلبُه يَقْظانُ"، أي: إنَّه يَدْري ويَعلَمُ بما يَحدُثُ حولَه، حتَّى وإنْ كان في هيئةِ النَّومِ، قالوا: "اضرِبوا له مَثلًا"، أي: يتَحدَّثون بَعضُهم لِبَعضٍ، فضرَب أحَدُهم مَثلًا، فقال: "مثَلُ سيِّدٍ بَنى قَصرًا ثمَّ جعَل مأدُبةً"، أي: طعامًا ووليمةً، "فدعا النَّاسَ إلى طَعامِه وشَرابِه، فمَن أجابه أكَل مِن طعامِه وشَرِب مِن شَرابِه، ومَن لم يُجِبْه عاقَبَه- أو قال: عذَّبَه-"، قال ابنُ مسعودٍ: "ثمَّ ارتفَعوا"، أي: قاموا وانصَرَفوا، وربَّما كان المرادُ: صُعودَهم إلى السَّماءِ، "واستيقَظ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عندَ ذلك"، أي: عندَ ارتِفاعِهم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لابنِ مسعودٍ: "سَمعتَ ما قال هؤلاءِ؟ وهل تَدْري مَن هم؟" قلتُ: "اللهُ ورسولُه أعلَمُ"، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "هم الملائكةُ"، أي: الَّذين كانوا يتَكلَّمون بحَضرَتِه وهو نائمٌ، "فتَدْري ما المثَلُ الَّذي ضرَبوه؟"، أي: ما المرادُ بحَقيقةِ المثَلِ الَّذي قالَتْه الملائكةُ؟" قلتُ: "اللهُ ورسولُه أعلَمُ"، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "المثَلُ الَّذي ضرَبوه"، أي: المرادُ به: "الرَّحمنُ بَنى الجنَّةَ، ودَعا إليها عِبادَه، فمَن أجابَه دخَل الجنَّةَ ومَن لم يُجِبْه عاقبَه أو عَذَّبَه"، أي: إنَّ القصرَ الَّذي بالمثَلِ كان المرادُ به الجنَّةَ، والنَّاسُ هم العِبادُ، فمَن أجاب اللهَ عزَّ وجلَّ في أوامِرِه فامْتثَلَها ونَواهيه فاجتنَبَها كان جَزاؤُه دُخولَ الجنَّةِ، ومَن عَصاه ولم يُطِعْه جعَل اللهُ عزَّ وجلَّ له مِن العَذابِ والعقابِ ما شاء.
وفي الحديثِ: بعضُ دَلائلِ نُبوَّتِه الشَّريفةِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم.
وفيه: بيانُ امتثالِ الصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عنه لأوامرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم( ).