باب من أدخل الضيفان عشرة عشرة، والجلوس على الطعام عشرة عشرة
بطاقات دعوية
عن أنس: أن أم سليم أمه عمدت إلى مد من شعير جشته (16) وجعلت منه خطيفة، وعصرت عكة عندها، ثم بعثتنى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتيته وهو فى أصحابه فدعوته، قال: ومن معى؟ فجئت فقلت: إنه يقول، ومن معى؟ فخرج إليه أبو طلحة، قال: يا رسول الله! إنما هو شىء صنعته أم سليم، فدخل، فجىء به، وقال: أدخل على عشرة، فدخلوا، فأكلوا حتى شبعوا، ثم قال: أدخل على عشرة، فدخلوا فأكلوا حتى شبعوا، ثم قال: أدخل على عشرة، حتى عد أربعين، ثم أكل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قام، فجعلت أنظر هل نقص منها شىء؟
في غَزْوةِ الخَندَقِ (الأحْزابِ) الَّتي وقَعَت في العامِ الخامِسِ مِن الهِجرةِ، بَلَغ الجُوعُ والجَهدُ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصْحابِه رِضوانُ اللهِ عليهم مَبلَغًا عَظيمًا.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه عن بَعضِ هذه المُعاناةِ، وأنَّ أبا طَلْحةَ الأنْصاريَّ زَوجَ أُمِّ أنَسٍ رَأى عَلاماتِ هذا الجوعِ والضَّعفِ، حتَّى ظَهَر ذلك في صَوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حيثُ كان يَخرُجُ ضَعيفًا، فعرَفَ أبو طَلْحةَ رَضيَ اللهُ عنه أثَرَ الجوعِ مِن ضَعفِ صَوتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذهَب إلى بَيتِه، وأخبَرَ زَوجتَه أمَّ سُلَيمٍ رَضيَ اللهُ عنها بجُوعِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وسَأَلها عن طَعامٍ عندَها، فأخرَجَتْ أقْراصًا مَخْبوزةً مِن دَقيقِ الشَّعيرِ، ثمَّ أخرَجتْ خِمارًا، ولفَّتِ الخُبزَ ببَعضِه، قالَ أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه -وأمُّهُ أمُّ سُلَيمٍ-: «ثمَّ دَسَّتْه تحْتَ يَدي»، أي: أخْفَتْه، «ولاثَتْني ببَعضِهِ»، واللَّوْثُ: الطَّيُّ، والمُرادُ: لفَّتْ بَعضَ الخِمارِ -الَّذي فيه الخُبزُ- على رَأسِه وبَعضَه على إبْطِه، ثمَّ أرسَلَتْه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفعَلَتْ أمُّ سُلَيمٍ ما فعَلَتْ لقلَّةِ الخُبزِ والطَّعامِ، فذَهَب أنَسٌ رَضيَ اللهُ عنه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوَجَدَه في المَسجِدِ معَه أصْحابُه، فقامَ عليهم واقفًا يَنتَظِرُ أنْ يَرى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَحْدَه حتَّى يُعْطيَه الخُبزَ؛ لأنَّهُ لا يَكْفي أصْحابَه، فلمَّا رآهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائمًا؛ قال: «آرْسلَكَ أبو طَلْحةَ؟» فأجابَ أنَسٌ: نَعمْ، فسَأَلَه: هلْ أرْسلَكَ بطَعامٍ؟ فأجابَ أنَسٌ: نَعم، فقال رَسولُ اللهِ لمَن معَه: «قوموا»، فوجَّهَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصْحابَه إلى بَيتِ أبي طَلْحةَ رَضيَ اللهُ عنه ليَطْعَموا؛ إذْ كانوا قد أصابَهمُ الجوعُ والتَّعبُ، فانطَلَقَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومعَه الصَّحابةُ، ومِن أمَامِهم أنَسٌ مُسرِعًا لإيصالِ الخَبرِ لأبي طَلْحةَ فأخْبَرَه، فذكَرَ أبو طَلْحةَ لزَوجتِه أمِّ سُلَيمٍ الخبرَ، وأنَّهُ ليس عندَهم طَعامٌ يَكْفي أصْحابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأوْكلَتْ أمُّ سُلَيمٍ الأمرَ للهِ، وقالت: «اللهُ ورَسولُه أعلَمُ»، وهذا مِن قوَّةِ إيمانِها ودِينِها.
فانطَلَقَ أبو طَلْحةَ يَستَقبِلُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فدَخَلا على أمِّ سُلَيمٍ، ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «هَلُمِّي يا أمَّ سُلَيمٍ ما عندَكِ»، أيْ: أحْضِري ما عندَكِ منَ الخُبزِ، فلمَّا جاءَتْه به، أمَرَ به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ففُتَّ وكُسِّرَ، فجُعِلَ قطَعًا صَغيرةً، وعَصَرتْ أمُّ سُلَيمٍ عُكَّةً، وهي وِعاءٌ مِن جِلدٍ مُستَديرٍ مُختَصٍّ بالسَّمْنِ والعَسلِ، «فأدَمَتْه»، أي: حَوَّلتْ ما في العُكَّةِ إلى إدامٍ، أو جَعَلتْ فيه إدامًا، والإدامُ: ما يُؤكَلُ مع الخُبْزِ أيَّ شَيءٍ كان، ثمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيه ما شاءَ أنْ يَقولَ، فدَعا في الطَّعامِ بالبَرَكةِ، ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأبي طَلْحةَ: «ائذَنْ لعَشَرةٍ»؛ وذلك لأنَّ المَكانَ لا يَتحَمَّلُ العَددَ كلَّه، فأذِنَ لهم، فأكَلوا حتَّى شَبِعوا، ثمَّ خَرَجوا، ثمَّ قال: «ائذَنْ لعَشَرةٍ» ثانيةٍ، وهكذا حتَّى أكَل القَومُ كلُّهم وشَبِعوا، والقَومُ سَبعونَ، أو ثَمانونَ رَجلًا، ببَرَكةِ دُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحَديثِ: حُسنُ عِشرَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأصْحابِه، حيث لم يُرِدْ أنْ يُطعَمَ وَحدَه وأصْحابُهُ جَوْعى، بلْ أطْعَمَهم قبْلَ أنْ يَطعَمَ.
وفيه: مُعجِزةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهي مِن دَلائلِ نُبوَّتِه الشَّريفةِ.