باب من شاق شق الله عليه
بطاقات دعوية
عن طريف أبي تميمة قال:
شهدت صفوان وجندبا وأصحابه وهو يوصيهم، فقالوا: هل سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا؟ قال: سمعته يقول:
"من سمع سمع الله به، [ومن يرائي يرائي الله به 7/ 189] يوم القيامة، قال: ومن يشاقق يشقق الله عليه يوم القيامة". فقالوا: أوصنا، فقال:
"إن أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيبا فليفعل، ومن استطاع أن لا يحال بينه وبين الجنة ملء (5) كفه من دم أهراقه فليفعل" (6).
قلت لأبي عبد الله (7): من يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ جندب؟ قال: نعم، جندب.
جعل اللهُ سُبحانَه وتعالى الجزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ؛ فمن أخلص في عِلْمِه ونوى به وَجْهَ الله، فله الجزاءُ الأوفى، ومن عَمِل بنيَّةٍ مُغايرةٍ لذلك، فإنَّ اللهَ سُبحانَه يعامِلُه بما يناقِضُ مَقصودَه، وبما يخالِفُ نيَّتَه في هذا العَمَلِ حتى يرتَدِعَ في نَفْسِه.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أبو تَمِيمَةَ طَرِيفُ بنُ مُجَالِدٍ الهُجَيْمِيُّ أنَّه شَهِد التَّابِعيَّ صَفْوَانَ بنَ مُحْرِزِ بنِ زِيَادٍ رَحِمه اللهُ، وجُنْدَبَ بنَ عبدِ الله البَجَلِيَّ الصَّحابيَّ المشهورَ رَضِيَ الله عنه «وأصحابَه»، أي: أصحابَ صَفْوَانَ، وكان جُندَبٌ يُوصي أصحابَ صَفوانَ حينَ سألوه: هلْ سَمِعتَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيئًا؟ فقال لهم جُنْدَبٌ رَضِيَ الله عنه: إنَّه سمع النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُخبِرُ أنَّ من قَصَد بعَملِه أنْ يَسْمَعَ النَّاسُ عمَلَه، ولم يَفْعَلْه مُخلِصًا لله، كأنْ يقولَ القولَ مِن العبادةِ رياءً للنَّاسِ، أو يَفعَلَ طاعةً ثُمَّ يُحدِّثَ بها لذلك؛ فجَزاؤه أنْ يُسمِعَه اللهُ ويُرِيَه ثَوابَه يوْمَ القِيامةِ مِن غيْرِ أنْ يُعطِيَه؛ ليكونَ حَسرةً عليه، وقِيلَ: مَن أرادَ بعَملِه النَّاسَ أسمَعَه اللهُ النَّاسَ، وذلك ثَوابُه فقطْ، وقِيلَ: شَهَره اللهُ يوْمَ القيامةِ وفَضَحه حتَّى يَرَى النَّاسُ ويَسمَعون ما يَحُلُّ به مِن الفضيحةِ والعُقوبةِ.
ثُمَّ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ومَن شَاقَّ» النَّاسَ، فأثقَلَ وشَدَّد عليهم بعَمَلٍ أو بكلامِه فيهم، فيَضُرُّ النَّاسَ ويحمِلُهم على ما يَشُقُّ من الأمرِ، أو يقولُ فيهم أمرًا قبيحًا ويَكشِفُ عن عُيوبِهم ومَساويهم، أو هو مِن الشِّقاقِ والخلافِ معهم؛ «شَقَّ اللهُ عليه يوْمَ القيامة» فيُعَذِّبُه العذابَ الشَّديدَ؛ فالجزاءُ مِن جِنسِ عَملِه.
ثم طلب أصحابُ صَفوانَ مِن جُندَبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أن يُوصِيهم، فأوصاهم فقال: «إنَّ أوَّلَ ما يُنتِنُ» فيَفسُدُ وتَصدُرُ منه الرَّائحةُ الكريهةُ «مِن الإنسانِ» بعْدَ موتِه «بَطْنُه، فمَن استَطاع ألَّا يَأكُلَ إلَّا طيِّبًا» حَلالًا «فَلْيَفْعَلْ»، وهذه وَصِيَّةٌ مَفادُها أنَّ المأكَلَ والمشرَبَ مهما كان فإنه يَفسُدُ في البَطنِ ويتخَمَّرُ ويَنتَنُ، فإذا كان من الحلالِ فهو أفضَلُ؛ لأنَّ آكِلَ الحلالِ سيُجازى خيرًا، أمَّا من أطعم بَطْنَه بالحرامِ فسيُجازى شرًّا.
ثم حَذَّرَهم مِن سَفْكِ الدَّمِ الحرامِ، فقال: «ومَن استطاع ألَّا يُحالَ بيْنَه وبيْنَ الجنَّةِ» فيُحْرَمَ مِن دُخولِها بسَببِ «مِلْءِ كَفٍّ مِن دَمٍ» مَعصومٍ «أَهْرَاقَه»، أي: أرَاقَه وصَبَّه بغيْرِ حقٍّ، وهو كنايةٌ عن قَتْلِه، «فَلْيَفْعَلْ» حتى لا يكونَ مَصيرُه العذابَ، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
وفي الحَديثِ: حِرصُ الصَّحابةِ على نُصحِ التابِعين، وحِرْصُ التابعين على الاستفادةِ مِن عِلْمِهم.
وفيه: اغتِنامُ وُجودِ العُلَماءِ والأخذُ منهم.
وفيه: بيانُ أهمِّيَّةِ الكَسْبِ الحَلالِ، وقُبحُ الحرامِ.
وفيه: خطورةُ الوُقوعِ في الدَّمِ الحَرامِ.