باب من فضائل أبي ذر رضي الله عنه
بطاقات دعوية
فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم، ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أمسى فعاد إلى مضجعه فمر به علي، فقال: أما نال للرجل أن يعلم منزله فأقامه، فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان يوم الثالث، فعاد علي مثل ذلك، فأقام معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدنني، فعلت ففعل، فأخبره قال: فإنه حق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء فإن مضيت فاتبعني،
كان الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري أمة وحده، ومتفردا في أفعاله وتصرفاته، وعقله في الجاهلية والإسلام
وفي هذا الحديث يخبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لمن معه من التابعين عن قصة إسلام أبي ذر رضي الله عنه، فروى أن أبا ذر رضي الله عنه أخبر عن كيفية إسلامه بنفسه، وأنه كان رجلا من حي من قبيلة غفار، فبلغهم ووصل إلى علمهم أن رجلا -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- قد ظهر بمكة ويزعم ويدعي أنه نبي يأتيه الخبر من السماء بالوحي من الله، فطلب أبو ذر من أخيه أنيس أن ينطلق إلى هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، وأن يقابله، ويكلمه، ثم يرجع له بما علم عنه وعرف، فذهب أنيس إلى مكة، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم، وقابله، وسمع قوله، ثم رجع إلى أخيه أبي ذر رضي الله عنه، فسأله: ما عندك من خبره صلى الله عليه وسلم؟ فقال أنيس: والله لقد رأيت رجلا يأمر بالخير، وينهى عن الشر، فقال أبو ذر رضي الله عنه لأخيه: «لم تشفني من الخبر»، فلم يكن في جواب أنيس ما يقدر به أن يعرف هذا النبي وحقيقة دعوته من التوحيد والإيمان وخصائل الإسلام؛ فقد كان بعض المشركين يدعون للخير أيضا، وينهون عن الشر، فقرر أبو ذر أن يذهب بنفسه إلى مكة، فأخذ جرابا وعصا، والجراب: وعاء من جلد يكون فيه طعام، ثم ذهب إلى مكة، ولكنه كان لا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم، ويخاف أن يسأل عنه أهل مكة فيؤذوه، فكان يبيت في المسجد الحرام، ويشرب من ماء زمزم؛ لأنه ليس معه زاد، واستمر هكذا حتى مر به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فسأله قائلا: «كأن الرجل غريب»، فأجابه أبو ذر رضي الله عنه: نعم، غريب، فأمره علي رضي الله عنه على سبيل الضيافة أن ينطلق معه إلى المنزل، فذهب معه، فلا يسأله علي رضي الله عنه عن شيء، ولا يجيبه عنه أبو ذر خشية أن يكون علي ممن يعادي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح أبو ذر ذهب إلى المسجد الحرام ليسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجد أحدا يخبره عنه بشيء، فمر به علي رضي الله عنه مرة أخرى، فسأله: أما آن للرجل يعرف منزله بعد؟ يعني: أما جاء وقت إظهار المقصود والاشتغال به، فرفض أبو ذر رضي الله عنه أن يجيبه، فقال علي رضي الله عنه: انطلق معي، فانطلق معه، فسأله علي: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ وكأن من اهتمام علي رضي الله عنه بأبي ذر ما يشعره أنه يريد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك صبر عليه، وكرر عليه ضيافته، فأجابه أبو ذر: «إن كتمت علي أخبرتك بذلك»، أي: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني، فعلت، قال علي رضي الله عنه: فإني أفعل ما ذكرته، فأخبره أبو ذر رضي الله عنه: بلغنا أنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه ويأتيني بخبره، فرجع بعد أن أتاه وسمع قوله، ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه، فقال له علي رضي الله عنه: أما إنك قد رشدت، أي: قد علمت الحق، والرشد خلاف الغي، هذا وقت توجهي إليه صلى الله عليه وسلم، فاتبعني، فادخل حيث أدخل؛ فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامض أنت، أي: استمر في المشي ولا تقف، قال أبو ذر رضي الله عنه: فمضى علي ومضيت معه، حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له صلى الله عليه وسلم: اعرض علي الإسلام، أي: عرفني بأركانه وواجباته، فعرضه النبي صلى الله عليه وسلم عليه، قال أبو ذر رضي الله عنه: «فأسلمت مكاني»، كناية عن فور إجابته للإسلام لما عرض عليه، وأعجب به، ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتم إسلامه، ويجعله سرا حتى يأتي وقت ظهور الإسلام ويشتد، فيقبل على النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك؛ خشية عليه من إيذاء أهل مكة له، فقال أبو ذر: والذي بعثك بالحق لأصرخن بكلمة التوحيد، ولأرفعن صوتي بها بين أظهرهم، وإنما لم يمتثل الأمر؛ لأنه علم بالقرائن أنه ليس للوجوب، فجاء أبو ذر رضي الله عنه إلى المسجد الحرام، والحال أن كفار قريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فقال كفار قريش: «قوموا إلى هذا الصابئ»، أي: الذي انتقل من دين إلى دين، أو ارتكب الجهل، فقاموا إليه فضربوه قاصدين موته، ولكن لحقه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وكان مشركا آنذاك، فرمى نفسه عليه حماية له من الضربات، ثم توجه العباس لقريش، فقال: ويلكم! تقتلون رجلا من غفار ومتجركم وممركم في طريق التجارة يمر على غفار؟! يخوفهم على تجارتهم من ثأر قبيلة غفار إن قتلت قريش أبا ذر، فكفوا عن ضربه، وفي اليوم التالي رجع أبو ذر إلى البيت الحرام، وحدث معه مثل ما حدث معه بالأمس
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله
وفي الحديث: فضل ومنقبة لأبي ذر رضي الله عنه
وفيه: أنه إذا كان للإنسان أمر مهم لم يبدأ بالسؤال عنه حتى ينظر من يصلح للسؤال عنه
وفيه: ما يدل على أن الله تعالى يهدي المجتهد؛ فإن الله تعالى قيض عليا رضي الله عنه للقاء أبي ذر
وفيه: كتمان الحق طلبا للمصلحة، وانتظارا لوجود الفرصة