باب من قاتل للرياء والسمعة
بطاقات دعوية
عن سليمان بن يسار - رضي الله عنه - قال تفرق الناس عن أبي هريرة فقال له ناتل أهل الشام (1) أيها الشيخ حدثنا حديثا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال نعم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما فعلت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار. (م 6/ 47
الشِّركُ الأصغَرُ هو كلُّ ما نَهى عنه الشَّرعُ ممَّا هو ذَريعةٌ إلى الشِّركِ الأكبَرِ، ووَسيلةٌ لِلوُقوعِ فيه، وهو غيرُ مُخرِجٍ مِن مِلَّةِ الإسلامِ، ومِن أنواعِ هذا الشِّركِ: الرِّياءُ. وهو مِن صَنيعِ المنافِقين.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ أوَّلَ النَّاسِ حِسابًا وسؤالًا عَن أفعالِه يومَ القيامةِ ثلاثةٌ، الأوَّلُ: رجُلٌ قُتِل في سَبيلِ اللهِ، فيُؤتى بهذا الرَّجلِ لِلحسابِ بيْن يَدَي اللهِ سُبحانه، فيُذَكِّرُه تعالَى نِعمَه الَّتي أنعَمَ بها عليه، قيل: الظَّاهرُ أنَّ المرادَ بالنِّعمِ في هذا الموقفِ هي النِّعمُ الَّتي تَتعلَّقُ بالجهادِ؛ مِن تَيسيرِ أسبابِه، وصِحَّةِ جَسدِه، ونحوِ ذلكَ، يدُلُّ على ذلكَ جَوابُه لمَّا سَأَلَه «ما عَمِلتَ فيها؟ قال: قاتَلْتُ فيكَ»، فيَعترِفُ بها العبدُ ويَتذكَّرُها، ولكنْ كأنَّه مِنَ الهولِ والشِّدَّةِ نَسيِها وذَهَلَ عنها، فَسُئِلَ ما عمِلْتَ في مُقابَلتِها شكرًا للهِ عليها؟ فيُجيبُ الرَّجلُ ويقولُ لِرَبِّه: «قاتَلْتُ فيك»، أي: جاهدْتُ لِأجلِك وفي طلَبِ مَرضاتِكَ، ورَجاءَ مَثوبتِكَ حتَّى قُتِلتُ شهيدًا، فيقولُ اللهُ تعالَى له -وهو الَّذي يَعلَمُ السِّرَّ وأخْفى-: «كذبْتَ»، أي: في دَعوى الإخلاصِ؛ بلْ قاتَلْتَ لِأجلِ أنْ يقولَ النَّاسُ في حقِّكَ: إنَّك جَرِيءٌ، شُجاعٌ، وقد قِيلَ ذلك القولُ في شأنِكَ في الدُّنيا، فحصَلَ مَقصودُك وغَرضُك، وهذا مَبنيٌّ على أنَّ العادةَ حُصولُ هذا القولِ، «ثُمَّ أُمِرَ به»، أي: قِيلَ لِخزنةِ جهنَّمَ: أَلْقُوه في النَّارِ، فيُسحَبُ ويُجَرُّ عَلى وَجْهِه حتَّى يُلْقى به في النَّارِ جَزاءً على سُوءِ فِعلِه.
والثَّاني: رجلٌ تَعلَّمَ العلمَ الشَّرعِيَّ وعلَّمَه النَّاسَ وقرأَ القرآنَ، فأُتِيَ به إلى مَحضرِ الحسابِ عندَ اللهِ، فَسُئلَ: ما عمِلْتَ فيها؟ أي: هل صَرفْتَها في مَرضاتي أم في غيرِها؟ فَأجابَ: تَعلَّمتُ العلمَ وعلَّمْتُه، وقَرأتُ فيكَ القرآنَ، أي: صرَفْتُ النِّعمةَ الَّتي أنعمْتَ بها علَيَّ في الاشتغالِ بِالعلمِ والعملِ والقراءةِ؛ ابتغاءً لِوجهِك وشكرًا لِنعمَتِك، فيُكذِّبُه المَولى عزَّ وجلَّ، وأنه تَعلَّمَ العلمَ ليَقولَ النَّاسُ: إنَّه عالِمٌ، وعَلَّمَ العلمَ؛ لِيُقالَ: إنَّه مُعلِّمٌ، وقد قيلَ له: عالِمٌ وقارئٌ في الدُّنيا، فحصَلَ مَقصودُه وغَرضُه، فَليْس له عندَ الله سُبحانه أجْرٌ، «ثُمَّ أُمِرَ به»، أي: قِيلَ لِخزنِة جهنَّمَ: أَلْقُوه في النَّارِ، فيُجَرُّ على وجْهِه حتَّى يُقذَفَ ويُلْقى به في النَّارِ.
والثَّالثُ: «رَجلٌ وسَّعَ اللهُ عليه»، أي: كثَّرَ مالَه وأعطاه مِن أصنافِ المالِ كلِّهِ كَالنُّقودِ، والمتاعِ، والعقارِ، والمَواشي، فسُئِلَ ما عَمِلْتَ فيها؟ أي: في مُقابلةِ النِّعمِ، أو في الأموال؟ فَأجابَ: ما تركْتُ مِن سَبيلٍ -أي: طريقٍ- تُحِبُّ أنْ يُنفَقَ فيها إلَّا أنْفقْتُ فيها لك، فيُكذِّبُه المَولى عزَّ وجلَّ، وأنَّه كان يُنفِقُ ليَقولَ النَّاسُ: هو جوادٌ، أي: سَخِيٌّ كريمٌ، وقد قيلَ، ثُمَّ أُمرَ به إلى النَّارِ، فَيُسحَبُ ويُجَرُّ على وَجهِه حتَّى يُلْقى في النَّارِ.
ولا يَتعارَضُ هذا مع حَديثِ النَّسائيِّ -وأصلُه في الصَّحيحينِ- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أوَّلُ ما يُحاسَبُ به العبدُ الصَّلاةُ، وأوَّلُ ما يُقْضى بيْن النَّاسِ في الدِّماءِ»؛ وذلك أنَّه سيَكونُ أوَّلُ ما يُحاسَبُ عليه العِبادُ يومَ القيامةِ في العِباداتِ وحُقوقِ اللهِ تعالَى؛ الصَّلاةَ، وفي حُقوقِ العبادِ الدِّماءُ، وهكذا كلٌّ في بابِه.
وفي الحديثِ: ضَرورةُ الإخلاصِ في الأعمالِ.