باب في الحرام, وقوله عز وجل (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) والاختلاف فيه 2
بطاقات دعوية
عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا قالت فتواطيت (5) أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلتقل إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير (6) فدخل على إحداهما فقالت ذلك له فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزل (لم تحرم ما أحل الله لك) إلى قوله (إن تتوبا) لعائشة وحفصة وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا لقوله بل شربت عسلا (7). (م 4/ 184
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خيْرَ النَّاسِ لأهْلِه وأزواجِه، وكان أزواجُه مِن حُبِّهنَّ له يُظْهِرْنَ الغَيْرةَ نحْوَه، مِثلُ ما يَقَعُ مِن باقي النِّساءِ في حَقِّ أزواجِهنَّ.
وفي هذا الحديثِ تَرْوي عائشةُ أُمُّ المُؤمِنين رضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَمكُثُ عندَ زَوجتِه زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ رضِيَ اللهُ عنها -حِين يَدورُ على نِسائِه لا عندَ نَوبتِها- ويَشرَبُ عِندَها عَسَلًا، فاتَّفقتَ عائشةُ وحَفْصةُ رضِي اللهُ عنهما فيما بيْنهما أنْ تقولَ كلُّ واحدةٍ منهما لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا دَخَلَ عليها: «إِنِّي أجِدُ منك رِيحَ مَغافيرَ»، وهو: صَمغٌ حُلْوُ الطَّعمِ كالعَسَلِ، ولكِنْ له رائحةٌ كَريهةٌ، يُنضِجُه شجَرٌ يُسَمَّى العُرْفُطَ، فلمَّا قالا له ذلك، قال لهنَّ: «بَل شَرِبتُ عسَلًا عندَ زَيْنبَ بنتِ جَحْشٍ، ولنْ أعودَ له»، وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَشتَدُّ عليه أنْ يُوجَدَ منه رِيحٌ غيْرُ طَيِّبةٍ؛ لأنَّه يَأتيه المَلَكُ بالوحْيِ، فامتَنَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن شُربِ العَسلِ الَّذي يُحِبُّه، وفي روايةٍ: «وقد حَلَفْتُ، فلا تُخْبِري بذلك أحَدًا»، أي: فلا تُخبري بهذا السِّرِّ أحدًا؛ وذلك لئلَّا يَبلُغَ زَينبَ رَضِيَ اللهُ عنها الخبَرُ، وأنَّه فعله ابتغاءَ مَرضاةِ أزواجِه؛ فيتغَيَّرَ قَلْبُها، فأنْزَلَ اللهُ تعالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 1 - 4]، ومَعْنى الآياتِ: يا أيُّها الرَّسولُ، لم تُحَرِّم ما أباح اللهُ لك؛ تبتغي بذلك إرضاءَ زَوجاتِك لَمَّا غِرْن من زينبَ، واللهُ غفورٌ لك، رحيمٌ بك؟! وقد شرع اللهُ لكم تحليلَ أيمانِكم بالكَفَّارةِ إن وجَدْتُم خيرًا منها أو حَنثْتُم فيها، واللهُ ناصِرُكم، وهو العليمُ بأحوالِكم وما يَصلُحُ لكم، الحكيمُ في شَرْعِه وقَدَرِه.
واذكُرْ حينَ خَصَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إحدى نسائِه بخبرٍ، ثم وجَّه الخِطابَ إلى زوجَتَيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عائِشةَ وحَفصةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، فأخبرهما بأنَّ من الحَقِّ عليكما أن تتوبا؛ وإن تُصِرَّا على العَودِ على تأليبِكما عليه، فإنَّ اللهَ هو وَلِيُّه وناصِرُه، وكذا جبريلُ وخِيارُ المُؤمِنين أولياؤُه ونُصَراؤُه. والملائِكةُ بعد نُصرةِ اللهِ له أعوانٌ له ونُصَراءُ على من يُؤذيه.
وفي حَديثٍ آخَرَ في الصَّحيحينِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَرِبَ العسلَ في بيْتِ حَفْصةَ رضِي اللهُ عنها، وفي هذا الحديثِ أنَّه شَرِبَه في بيْتِ زَيْنبَ رضِي اللهُ عنها. والجمْعُ بيْنَ هذا الاختلافِ: الحَملُ على التَّعدُّدِ؛ فلا يَمتنِعُ تَعدُّدُ السَّببِ لِلأمرِ الواحدِ. وقيل: الأرجَحُ أنَّها زَينبُ؛ لأنَّ نِساءَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُنَّ حِزبَينِ: عائِشةُ وحَفصةُ وسَودةُ وصَفِيَّةُ في حزبٍ، وزينبُ بنتُ جَحشٍ وأمُّ سَلَمةَ والباقياتُ في حِزبٍ، وهذا يرجِّحُ أنَّ زينبَ هي صاحِبةُ العَسَلِ؛ لأنَّها المنافِسةُ لها.
وفي الحَديثِ: أنَّ الغَيْرةَ مَجْبولَةٌ في النِّساءِ طبْعًا.
وفيه: أنَّ التحليلَ والتحريمَ يكونُ بأمْرٍ مِنَ اللهِ سُبحانَه وأنَّه ليس للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يحَرِّمَ حلالًا أو يحِلَّ حرامًا.
وفيه: أنَّ من حلف على تَرْكِ شَيءٍ مِنَ الطَّيِّباتِ مأكولًا كان أو مشروبًا أو ملبوسًا؛ فإنَّه ينبغي له أن يحنَثَ في يمينِه، ويُكَفِّرَ عنها.