باب: ومن سورة التوبة4
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عفان بن مسلم، وعبد الصمد بن عبد الوارث، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن أنس بن مالك، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبي بكر، ثم دعاه فقال: «لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي» فدعا عليا فأعطاه إياه. «هذا حديث حسن غريب من حديث أنس بن مالك»
لَمَّا قَوِي الإسلامُ واشتَدَّت شوكتُه ومَكَّنَ اللهُ تعالى لنبيِّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وتَمكَّن مِن جَزيرةِ العربِ، دعَمَ بناءَ الإسلامِ، وأرْسى قواعِدَه، ومحا الشِّركَ وعاداتِ الجاهليَّةِ كما أمرَه ربُّه عزَّ وجلَّ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عَنهما: "بعَث"، أي: أرسَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم "أبا بَكرٍ إلى مكَّةَ أميرًا على الحجِّ، وأمَره أن يُناديَ بهؤلاء الكلماتِ"، أي: أمره أن يَقرَأَ أوَّلَ سورةِ براءةَ في النَّاسِ، ويُلقِيَها على مَسامِعِهم، "ثمَّ أتْبعَه عليًّا"، أي: ثمَّ أتبَع النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أبا بكرٍ وأرسَل خلْفَه عليَّ بنَ أبي طالبٍ، "فبَيْنا أبو بكرٍ في بعضِ الطَّريقِ"، أي: فبينما أبو بكرٍ رضِيَ اللهُ عَنه في طريقِه إلى مكَّةِ، "إذا سَمِع"، أي: سمع أبو بكرٍ فجأةً، "رُغاءَ"، والرُّغاءُ هو صوتُ الجملِ، وقيل: صوتُ خُفِّ البعيرِ، "ناقةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم القَصْواءِ"، والقصواءُ هو اسمُ ناقةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "فخرَج أبو بكرٍ فَزِعًا"، أي: خائفًا، "فظنَّ أنَّه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم"، أي: فظنَّ أبو بكرٍ أنَّ الذي يَركَبُ النَّاقةَ القصواءَ هو النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "فإذا هو علِيٌّ"، أي: فإذا الذي يركَبُ ناقةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم القصواءَ هو عليُّ بنُ أبي طالبٍ، "فدفَع إليه كِتابَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم"، أي: أَعطَى أبو بكرٍ كتابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم الَّذي فيه أوَّلُ سورةِ بَراءة، إلى عليِّ بنِ أبي طالبٍ، "وأمَر عليًّا أن يُنادِيَ بهؤلاء الكلماتِ"، أي: وأمَر أبو بكرٍ عليًّا أنْ يُنادِيَ في النَّاسِ بأوَّلِ سُورةِ بَراءة في مَوسمِ الحجِّ ويَقْرَأَها عليهم، وقيل: أتبَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أبا بكرٍ بعليِّ بنِ أبي طالبٍ؛ لأنَّ جبريلَ أتاه وقال له: إنه لا يُؤدِّي عنك إلَّا أنت أو رجُلٌ مِنك، أي: مِن نسَبِك وآلِ بيتِك، وقيل: لأنَّه كانت مِن عادةِ العربِ أن يَنوبَ عن كَبيرِ القبيلةِ رجلٌ مِن أقاربِه، وقيل: لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أراد أن يُطيِّبَ نفْسَ عليٍّ حيث جعَل أبا بكرٍ أميرًا على المَوسِمِ، وجعلَ عليًّا يُنادي في النَّاسِ ببراءةَ، وذلك كلُّه لا يَنْفي إمارةَ أبي بكرٍ للمَوسِم، وتحمَّل عليُّ بنُ أبي طالبٍ النِّداءَ بأوَّلِ سُورةِ بَراءة، "فانطَلَقا فحجَّا"، أي: فانطلق أبو بكرٍ وعليٌّ إلى مكَّةَ، فأَدَّيا مناسِكَ الحجِّ، "فقام عليٌّ"، أي: في موسمِ الحجِّ، "أيَّامَ التَّشريقِ"، وهي أيَّامُ الحادي عشَرَ والثَّاني عشَرَ والثَّالِثَ عشَرَ مِن ذي الحِجَّةِ، "فنادى"، أي: نادى في النَّاسِ، "ذمَّةُ اللهِ ورسولِه بريئةٌ مِن كلِّ مشرِكٍ"، والذِّمَّةُ هي العهدُ والميثاقُ، والمعنى أنَّ اللهَ بريءٌ مِن المشركين ورسولُه، فليس لهم ذمَّةٌ ولا عهدٌ ولا ميثاقٌ، {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]، أي: أيُّها المشرِكون، سِيروا في الأرضِ آمِنين مدَّةً قَدرُها أربعةُ أشهُرٍ فقط، ثمَّ ليس لكم عهدٌ ولا ذمَّةٌ، "ولا يَحُجَّنَّ بعدَ العامِ مشرِكٌ"، أي: ومِن ضِمْنِ كتابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم الَّذي أمَر عليًّا أن يُنادِيَ به في الموسمِ أن لا يَحُجَّ بيتَ اللهِ الحرامَ مُشرِكٌ بعدَ اليومِ، فقد حرَّم اللهُ بيتَه على المشرِكين، "ولا يَطوفَنَّ بالبيتِ عُريانٌ"، أي: ولا يطوفُ أحدٌ بالبيتِ الحرامِ عُريانًا بعد اليومِ؛ فتلك عادةٌ جاهليَّةٌ قد مَحاها الإسلامُ، "ولا يَدخُلُ الجنَّةَ إلَّا مؤمنٌ"، أي: ولن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا المؤمِنون، فلا يتمَنَّينَّ مُشرِكٌ أو كافرٌ أن يَدخُلَها، "وكان عليٌّ يُنادي"، أي: وكان عليُّ بنُ أبي طالبٍ يُنادي بما في كتابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم طَوالَ أيَّامِ التَّشريقِ، "فإذا عَيِي"، أي: فإذا تَعِب عليٌّ وأُجهِد، "قام أبو بكرٍ فنادى بها"، أي: قام أبو بكرٍ رضِيَ اللهُ عَنه فنادَى بتِلك الكلماتِ على مَسامِعِ النَّاسِ أثناءَ الموسِمِ.
وفي الحديثِ: فضيلةٌ ومنقبةٌ لأبي بكرٍ، ولعليِّ بنِ أبي طالبٍ رضِيَ اللهُ عَنهما.