باب: ومن سورة النحل
سنن الترمذى
حدثنا أبو عمار قال: حدثنا الفضل بن موسى، عن عيسى بن عبيد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: حدثني أبي بن كعب، قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم قال: فلما كان يوم فتح مكة، فأنزل الله تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} [النحل: 126] فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفوا عن القوم إلا أربعة». «هذا حديث حسن غريب من حديث أبي بن كعب»
أُرسِلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وبُعِث رحمةً للعالَمين، رحمةً لهم في الدُّنيا والآخرةِ، وفي هذا الحديثِ يَحكي أُبيُّ بنُ كعبٍ رضِيَ اللهُ عنه: أنَّه "لَمَّا كان يومُ أحُدٍ"، أي: في غزوةِ أحُدٍ، وكانت في السَّنةِ الثَّالثةِ مِن الهجرةِ خارِجَ المدينةِ عندَ جبَلِ أحُدٍ، "أصيب"، أي: قُتل "مِن الأنصارِ أربعةٌ وسِتُّون رَجُلًا، وِمن المهاجرين سِتَّةٌ فيهم حَمزُة، فمَثَّلوا بهم"، أي: مثَّل الكُفَّارُ بجُثَثِ المسلمين، والمُثْلةُ: تَقطيعُ الأعضاءِ؛ كجَذْعِ الأنفِ والأذُنِ، وفَقْءِ العينِ، فقالت الأنصارُ: "لَئِن أصَبْنا مِنهم يومًا مِثلَ هذا"، أي: أوقَعْنا بهم في قتالٍ قادمٍ، "لَنُرْبِيَنَّ عليهم" مِن الإرباءِ، والمعنى: لَنَزيدَنَّ عليهم في التَّمثيلِ بأكثرَ ممَّا فعَلوا في جُثَثِ المسلمين في أحُدٍ.
قال: "فلمَّا كان يومُ فتحِ مكَّةَ، فأنزَل اللهُ تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، أي: إنَّ لكم أن تُعاقِبوا مَن ظلَمَكم واعتدَى عليكم بمِثلِ ما فعَل بكم، وإن ترَكْتم عِقابَهم واحتسَبتُم الأجرَ عندَ اللهِ فهو أفضلُ وخيرٌ لكم، فقال رجلٌ: "لا قُريشَ بعدَ اليومِ"، أي: يُريدُ أن يَفتِكَ بهم ويَستَأصِلَهم، وذلك أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم كان قد أخبَرهم بأنَّ مَن حمَل عليهم سِلاحًا في ذلك اليومِ فَلْيَقتُلوه، ولكن بعد ذلك أمَّنَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في ذلك اليومِ إن ترَكوا القتالَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "كُفُّوا عن القومِ إلَّا أربعةً"، أي: لا تَقتُلوا أحَدًا مِن قُريشٍ إلَّا أربعةَ نفَرٍ حتَّى إنَّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال- كما في حديثٍ آخَرَ- عن هؤلاءِ الأربعةِ: "اقتُلوهم وإنْ وجَدتُموهم مُتعلِّقين بأستارِ الكعبةِ: عِكْرِمةَ بنَ أبي جهلٍ، وعبدَ اللهِ بنَ خطَلٍ، ومِقْيَسَ بنَ صُبابةَ، وعبدَ اللهِ بنَ سعدِ بنِ أبي السَّرْحِ"، وممَّا جاء في قصَّةِ قتلِ هؤلاء الأربعةِ: فأمَّا عبدُ اللهِ بنُ خطَلٍ فأُدرِكَ وهو مُتعلِّقٌ بأستارِ الكعبةِ، فاستبَق إليه سعيدُ بنُ حُريثٍ وعمَّارُ بنُ ياسرٍ، فسبَق سعيدٌ عمَّارًا، وكان أشَبَّ الرَّجُلينِ فقتَله، وأمَّا مِقْيسُ بنُ صُبابةَ، فأدرَكه النَّاسُ في السُّوقِ، فقتَلوه، وأمَّا عِكرِمةُ فرَكِب البحرَ، فأصابَتْهم عاصِفٌ، فقال أصحابُ السَّفينةِ: أَخلِصوا؛ فإنَّ آلِهتَكم لا تُغْني عنكم شيئًا هاهنا! فقال عكرمةُ: واللهِ لَئِن لم يُنجِّني مِن البحرِ إلَّا الإخلاصُ، لا يُنجِّيني في البَرِّ غيرُه، اللَّهمَّ إنَّ لك عليَّ عهدًا إنْ أنت عافيتَني ممَّا أنا فيه أن آتيَ محمَّدًا صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم حتَّى أضَعَ يدي في يدِه، فلَأجِدَنَّه عفُوًّا كريمًا، فجاء فأسلَم، وأمَّا عبدُ اللهِ بنُ سعدِ بنِ أبي السَّرحِ، فإنَّه اختبَأ عِندَ عُثمانَ بنِ عفَّانَ، فلمَّا دعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم النَّاسَ إلى البَيعةِ، جاء به حتَّى أوقَفه على النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، قال: يا رسولَ اللهِ، بايِعْ عبدَ اللهِ، قال: فرَفَع رأسَه، فنظَر إليه ثلاثًا، كلَّ ذلك يَأْبى، فبايَعه بعدَ ثلاثٍ، ثمَّ أقبَل على أصحابِه فقال: «أمَا كان فيكم رجُلٌ رشيدٌ يَقومُ إلى هذا حيثُ رآني كفَفتُ يَدي عن بَيعتِه فيَقتُلَه؟»، فقالوا: وما يُدْرينا يا رسولَ اللهِ ما في نَفسِك، هلَّا أومأتَ إلينا بعَينِك؟ قال: «إنَّه لا يَنبَغي لنبيٍّ أن يكونَ له خائنةُ أعيُنٍ».