باب: ومن سورة النساء11
سنن الترمذى
حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء بن عمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دما، يقول: يا رب، قتلني هذا، حتى يدنيه من العرش " قال: فذكروا لابن عباس، التوبة، فتلا هذه الآية: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا} [النساء: 93]، قال: «ما نسخت هذه الآية، ولا بدلت، وأنى له التوبة»: هذا حديث حسن. وقد روى بعضهم هذا الحديث، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، نحوه ولم يرفعه
حرَّمَ اللهُ سُبحانَه سفْكَ الدِّماءِ المعصومةِ بغيرِ حَقٍّ، وتوعَّدَ مَن سفَكَها عمْدًا بالعذابِ الأليمِ، والخُلودِ في دارِ الجَحيمِ، والله عزَّ وجلَّ حَكَمٌ عدَلٌ لا تَضيعُ عِندَه الحقوقُ، بل يُوفِّيها لأصحابِها يومَ القِيامةِ، ومِن ذلك تَوفيةُ حقِّ مَن قُتِلَ ظُلمًا ممَّن ظَلَمَه.
وفي هذا الحديثِ يُخْبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قال: "يَجِيءُ المقتولُ بالقاتلِ يومَ القِيامةِ ناصيتُه"، أي: أعلى مُقدِّمِ رأْسِه، "ورأْسُه"، أي: وباقي رأْسِه، "في يَدِه"، أي: مُمسِكٌ المقتولُ برأْسِ القاتلِ، "وأوداجُه" جمعُ ودَجٍ، وهي ما أحاط بالعُنقِ من العُروقِ الَّتي يقطَعُها الذَّابحُ، وهما: عِرْقانِ على جانبيِ العُنقِ، والضَّميرُ يعودُ على المقتولِ، "تَشخُبُ دَمًا"، أي: يَسيلُ منها الدَّمُ، "يقولُ: يا رَبِّ قَتَلني، حتَّى يُدْنِيَه"، أي: يُقرِّبَه، "من العرشِ"، وفي روايةٍ: "رَبِّ، سَلْ هذا: لِمَ قَتَلني؟"، وهذا تأكيدٌ لمُحاسبةِ القاتلِ، وأنَّه يأتي بين يَدَيِ اللهِ يومَ القِيامةِ.
قال عمرُو بنُ دِينارٍ: "فذَكَروا لابنِ عبَّاسٍ التَّوبةَ"، أي: سأَلُوه عن تَوبةِ القاتلِ: هلْ تنفَعُه يَومئذٍ؟ فتلَا ابنُ عبَّاسٍ هذه الآيةَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، ثُمَّ قال ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: ما نُسِخَت منذُ نُزِلَت، وأنَّى له التَّوبةُ؟!"، وظاهرُ كلامِ ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: أنَّه لا تَوبةَ لقاتلِ النَّفسِ المُؤمنةِ عمْدًا. وقيل: إنَّ قولَ ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما بعدَمِ النَّسخِ في تلك الآيةِ، هذا تَغليظٌ منه، كيف والمُشرِكُ تُقبَلُ تَوبتُه؟ وقد قال تعالى فيه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وكان يتمسَّكُ بظاهرِ قولِه تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] الآيةَ، ويُجيبُ عن قولِه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] تارةً بالنَّسخِ، وتارةً بأنَّ ذاك إذا قتَلَ وهو كافرٌ، ثمَّ أسلَمَ، لكنْ قال العُلماءُ: إنَّ قولَه تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} مُقيَّدٌ بالموتِ بلا تَوبةٍ، ويُؤوِّلونَ ذلك بأنَّ المُرادَ بالخُلودِ طُولُ المُكْثِ، وبأنَّ هذا بيانُ ما يَستحِقُّه بعمَلِه، كما يُشيرُ إليه قولُه: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}، ثمَّ أمْرُه إلى اللهِ تعالى؛ إنْ شاء عذَّبَه، وإنْ شاءَ عَفا عنه.
وفي الحديثِ: عِظَمُ أمْرِ الدَّمِ والقتْلِ.