بناء الكعبة 3
سنن النسائي
أخبرنا إسمعيل بن مسعود، ومحمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن شعبة، عن أبي إسحق، عن الأسود، أن أم المؤمنين، قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن قومي - وفي حديث محمد قومك - حديث عهد بجاهلية لهدمت الكعبة، وجعلت لها بابين» فلما ملك ابن الزبير، جعل لها بابين
كانتْ صِفةُ بِناءِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ للبيتِ مُدوَّرًا عندَ الرُّكنينِ الشاميِّ والعِراقيِّ، فهو على تلك الهيئةِ بحِجرِ إسماعيلَ، وكان له رُكنانِ، وهما اليَمانِيانِ، فلمَّا بَنَتْه قُريشٌ في الجاهليَّةِ جَعَلوا له أربعةَ أركانٍ، وجَعَلوا الحِجرَ مِن وَرائِه، إرادةً منهم لاستِكمالِ الطَّوافِ بالبَيتِ، وهو على شَكلِ نِصفِ دائرةٍ يُلاصِقُ الرُّكنينِ الشاميَّ والعراقيَّ، فالحِجرُ جُزءٌ مِن الكعبةِ
وفي هذا الحَديثِ تَحكي عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخْبَرَها أنَّه لولا قُرْبُ عَهْدِ قُرَيشٍ مِن الكُفرِ، ومَخافةُ إنكارِ قُلوبِهم؛ لهدَمَ البَيتَ الحرامَ، ثمَّ أعادَ بِناءَه على أساسِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وجعَلَ له خَلْفًا، أي: بابًا. وفي الصَّحيحَينِ: «فجعَلْتُ لها بابينِ: بابٌ يَدخُلُ الناسُ، وبابٌ يَخرُجونَ»
وأخْبَرَها أنَّ قُرَيشًا استَقصَرتْ بِناءَ البَيتِ، أي: اقتصَرَتْ على هذا القَدْرِ المبنيِّ منه، فلمْ تَبْنِ كلَّ البيتِ فوقَ قَواعدِ إبراهيمَ؛ لِقُصورِ النَّفقةِ التي جَمَعوها عن تَمامِه، حيث إنَّهم قدْ شَرَطوا أنَّ المالَ الذي سيُبْنَى منه الكعبةُ يكونُ مِن أطيَبِ المالِ، ولا يكونُ فيه شَيءٌ حَرام
وفي الحديثِ: دَليلٌ على ارتِكابِ أيسرِ الضَّررَين دَفْعًا لأَكبرِهما؛ لأنَّ تَرْكَ بِناءِ الكَعبةِ على ما هو عليه أيسرُ مِن افتِتانِ طائفةٍ مِن المسلِمينَ ورُجوعِهِم عن دِينِهِم؛ ففيه: دليلٌ للقاعدةِ المشهورةِ: أنَّ درْءَ المفاسدِ مُقدَّمٌ على جلْبِ المصالِحِ
وفيه: أنَّ النُّفوسَ تُساسُ بما تُساسُ إلَيه في الدِّينِ -مِن غَيرِ الفَرائِضِ- بأن يُتْرَكَ ويُرفَعَ عن النَّاسِ ما يُنكِرون مِنها