حديث عمار بن ياسر 10
سنن النسائي
حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد، حدثنا سليمان الأعمش، حدثنا شقيق، قال: كنت قاعدا مع عبد الله، وأبي موسى الأشعري، فقال: أبو موسى لعبد الله: لو أن رجلا لم يجد الماء، لم يصل؟ فقال عبد الله: لا، فقال أبو موسى: أما تذكر إذ قال عمار لعمر: ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإياك في إبل، فأصابتني جنابة، فتمرغت في التراب، فلما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرته، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «إنما كان يكفيك أن تقول هكذا» وضرب بكفيه إلى الأرض، ثم مسح كفيه جميعا، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة؟ فقال عبد الله: لا جرم ما رأيت عمر قنع بذلك؟ قال: فقال له أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة النساء {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا [ص:273] طيبا} [النساء: 43] ؟ قال: فما درى عبد الله ما يقول، وقال: «لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إن برد الماء على جلده أن يتيمم» قال عفان: وأنكره يحيى يعني ابن سعيد، فسألت حفص بن غياث، فقال: كان الأعمش، يحدثنا به عن سلمة بن كهيل، وذكر أبا وائل
والسواك، وتقليم الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، والاستحداد، والاختتان، والانتضاح»
التَّيمُّمُ رُخْصةٌ رخَّصَ اللهُ تَعالى فيها لِمَنْ أحدَثَ ولم يَجِدِ الماءَ، وذلِك بأنْ يَتيمَّمَ ويُصلِّيَ، وقد كان عبدُ اللهِ بنُ مَسْعودٍ رضِيَ اللهُ عنه يَرى في بِدايةِ الأمْرِ أنَّ التيمُّمَ بدَلٌ لِلوُضوءِ فَقَطْ لا لِلغُسلِ
وفي هذا الحَديثِ مُناظَرةٌ بيْنَه وبيْنَ أبي مُوسى الأشْعريِّ رضِيَ اللهُ عنهما في هذه المَسْألةِ؛ حيثُ يَرْوي التَّابعيُّ الجليلُ أبو وائِلٍ شَقيقُ بنُ سَلَمةَ: "كُنتُ جالِسًا مع عبدِ اللهِ وأبي مُوسى، فقال أبو مُوسى: يا أبا عبدِ الرَّحمنِ، أرأيتَ لو أنَّ رَجُلًا أجنَبَ" بسَبَبِ نُزولِ المَنيِّ لأيِّ سَبَبٍ "فلم يَجِدِ الماءَ شَهْرًا، أكانَ يَتيمَّمُ؟" ويَأخُذُ بالرُّخْصةِ بأنَّ التَّيمُّمَ يَكْفي في التَّطهُّرِ من الجَنابةِ، ويَصِحُّ به الوُضوءِ عِندَ انعِدامِ الماءِ "فقالَ عبدُ اللهِ: لا يَتيمَّمُ، وإنْ لم يَجِدِ الماءَ شَهْرًا" فقالَ له أبو مُوسى: فكيف تَصنَعونَ بهذه الآيةِ في سُورةِ المائِدةِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]؟" فكان أبو مُوسى رضِيَ اللهُ عنه يُنكِرُ قَولَ ابنِ مَسْعودٍ رضِيَ اللهُ عنه بأنَّ الجُنُبَ لا يَتيمَّمُ، ولا يُصلِّي حتَّى يَجِدَ الماءَ، ثُمَّ استَدَلَّ بهذه الآيةِ "فقالَ له عَبدُ اللهِ: لو رُخِّصَ لهم في هذا لَأوْشَكوا إذا بَرَدَ عليهمُ الماءُ أنْ يَتيمَّموا الصَّعيدَ" فاستَدَلَّ ابنُ مَسْعودٍ رضِيَ اللهُ عنه هُنا بأنَّ القَولَ بأنَّ الجُنُبَ يجوزُ له التَّيمُّمُ قد يَفتَحُ البابَ أمامَ التَّساهُلِ في التَّيمُّمِ، فَيتيمَّمُ كُلُّ مَنْ وجَدَ الماءَ باردًا، فأرادَ سَدَّ الذَّريعةِ، "فقال أبو مُوسى لِعَبدِ اللهِ بنِ مَسْعودٍ: "فإنَّما كَرِهتُم هذا لهذا؟ قال: نَعَمْ"، فذكَرَ أبو مُوسى رضِيَ اللهُ عنه له حديثَ عمَّارِ بنِ ياسرٍ رضِيَ اللهُ عنه الَّذي قال فيه: "بَعثَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حاجةٍ، فأجنَبْتُ فلم أَجِدِ الماءَ، فتَمَرَّغْتُ في الصَّعيدِ كما تَمرَّغُ الدَّابَّةُ ثُمَّ جِئتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وذَكَرْتُ له ما فَعَلتُ ذلِكَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: " إنَّما كانَ يَكْفيكَ أنْ تَضرِبَ بيَدَيكَ على الأرضِ، ثُمَّ تَمسَحُ إحْداهما على الأُخْرى، ثُمَّ تَمسَحُ بهما وَجْهَكَ"، أي: كان يُغنيكَ عن التَّمرُّغِ بكُلِّ جَسَدِكَ أنْ تَتيمَّمَ مِنَ الجَنابةِ، ثُمَّ علَّمَهُ كَيفيَّةَ التَّيمُّمِ بأنْ يَضرِبَ بكَفِّهِ ضَرْبةً على الأرضِ، ثُمَّ يَنفُضَها، ثُمَّ يَمسَحَ بها ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمالِهِ، أو ظَهْرَ شِمالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ يَمسَحَ بها وَجهَهُ، وهذا يدُلُّ على ثُبوتِ التَّيمُّمِ لِلجُنُبِ، فقال عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه لأبي مُوسى: "ألَمْ تَرَ عُمَرَ لم يَقنَعْ بقَولِ عمَّارٍ"، يُشيرُ إلى أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه قال: إنَّه لا يَتذَكَّرُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال لِعمَّارٍ رضِيَ اللهُ عنه هذا عِندَما حدَّثَ عمَّارٌ رضِيَ اللهُ عنه بهذا الحَديثِ أمامَ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه
وقال يُوسُفُ -وهو يُوسُفُ بنُ مُوسى أحَدُ رُواةِ هذا الحَديثِ من طَريقٍ آخَرَ-: "أنْ تَضرِبَ بكَفَّيكَ على الأرْضِ، ثُمَّ تَمسَحُهُما، ثُمَّ تَمسَحُ بهما وَجْهَكَ وكَفَّيكَ، فقال عبدُاللهِ: أَلَمْ تَرَ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه لم يَقنَعْ بقَولِ عمَّارٍ"
وقد جاء ما يدلُّ على التَّيمُّمِ لِقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما عِندَ النَّسائيِّ: "إنَّ الصَّعيدَ الطَّيِّبَ طَهورُ المُسلِمِ، وإنْ لم يَجِدِ الماءَ عَشْرَ سِنينَ، فإذا وجَدَ الماءَ فلْيُمِسَّه بَشَرَتَهُ؛ فإنَّ ذلِكَ خَيرٌ"
وفى هذا الحَديثِ: بيانُ عادةِ الصَّحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم في المُناظرَةِ في العِلمِ والاحتِجاجِ بكِتابِ الله وسُنَّةِ نبيِّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمقاييسِ الصَّحيحةِ عليها