حديث البراء بن عازب 15
مستند احمد
حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم، على مجلس من الأنصار فقال: «إن أبيتم إلا أن تجلسوا، فاهدوا السبيل، وردوا السلام، وأعينوا المظلوم»
[ص:431]
الجُلوسَ علَى الطُّرُقاتِ يُؤَدِّي -في الأغلَبِ- إلى أذيَّةِ النَّاسِ، وذلك بإحراجِهم بمُلاحَقَتِهم بالنَّظَراتِ، أو تَضييقِ الطَّريقِ عليهم، أو أنَّ الجالِسَ نَفْسَه قد يَتَعرَّضُ لِلفِتنةِ أو يُعَرِّضُ غَيرَه لها، وغَيرِ ذلِك مِنَ المَفاسِدِ؛ فالطَّريقُ في الإسلامِ له آدابٌ وحُقوقٌ يَجِبُ أنْ تُراعى
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ البَراءُ بنُ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد مَرَّ ببَعضِ أصحابِه مِنَ الأنصارِ وهم جالِسونَ على الطَّريقِ ومُجتَمِعونَ فيه، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنْ كُنتم لا بُدَّ فاعِلينَ" وكأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحَذِّرُهم مِنَ الجُلوسِ على الطَّريقِ، إلَّا أنَّه لم يَنهَهم عنه، وأنَّه خِلافُ الأَوْلى لِلمُسلِمِ، وقد جاءَ في الرِّواياتِ كما في الصَّحيحَيْنِ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا حَذَّرَهم مِن تلك الجِلسةِ، قالوا لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ما لَنا بُدٌّ؛ إنَّما هي مَجالِسُنا نَتَحدَّثُ فيها" فهي مُجتمَعاتُنا وأندِيَتُنا التي نَتحَدَّثُ فيها بشُؤونِنا، ونَتَذاكَرُ فيها مَصالِحَنا مِن أُمورِ الدِّينِ، ومَصالِحِ الدُّنيا، ونُرَوِّحُ عن نُفوسِنا بالمُحادَثةِ في المُباحِ، ويُسَرِّي بَعضُنا عن بَعضٍ؛ فتَركُها يَشُقُّ عَلينا، ففَهِموا مِن كَلامِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لِلتَّحذيرِ، وليس لِلنَّهيِ الصَّريحِ، أو أنَّ النَّهيَ لِلتَّنزيهِ، ولا يُرادُ به التَّحريمُ؛ لِأنَّهم لم يَعهَدوا مِنَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَحريمَ نافِعٍ، ولا إباحةَ ضارٍّ، أو أنَّ النَّهيَ لِمَعنًى مُتَّصِلٍ بالمَجالِسِ، لا لِنَفْسِها وذاتِها، وإلَّا فإنَّ الصَّحابةَ رَضيَ اللهُ عنهم أسرَعُ النَّاسِ إجابةً لِأوامِرِ اللهِ ورَسولِه؛ ولِذلك كانتْ مُراجَعَتُهم لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ استِفسارًا على ما فَهِموه منه، وليس مُعارَضةً له -حاشاهم-، ولو عَلِموا أنَّ النَّهيَ عَزمةٌ مِنَ العَزَماتِ ما راجَعوه، ولَبادَروا إلى الامتِثالِ مُباشَرةً؛ فأجابَهُمُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما يَدُلُّ على أنَّ النَّهيَ ليس لِذاتِ المَجالِسِ، وإنَّما هو مِن أجْلِ حُقوقِ الطَّريقِ التي يَتَعرَّضُ لها الجالِسُ؛ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -مُبَيِّنًا آدابَ هذه المَجالِسِ: "فاهدوا السَّبيلَ" وهو الطَّريقُ، والمُرادُ: إرشادُ الضَّالِّ والأعمى ونَحوِهما إلى غايَتِهم في الطَّريقِ، "ورُدُّوا السَّلامَ" فعلى الجالِسِ أنْ يَرُدَّ السَّلامَ والتَّحِيَّةَ بمِثلِها أو أحسَنَ مِنها، ويُوَادَّ مَن وادَّهُ، ويُكرِمَ مَن أكرَمَه، كما قال اللهُ تعالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86]، "وأعينوا المَظلومَ" وإعانَتُه تَكونُ على ظالِمِه بالقَولِ أوِ الفِعلِ ما أمكَنَ.وقد جاءَ في الصَّحيحَيْنِ ما يَزيدُ على تلك الأوامِرِ والآدابِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بيانِ حقوقِ الطَّريقِ: "غَضُّ البَصَرِ، وكَفُّ الأذَى، ورَدُّ السَّلامِ، وأمْرٌ بالمَعروفِ، ونَهيٌ عنِ المُنكَرِ"
وفي الحَديثِ: نَدبٌ إلى حُسنِ مُعامَلةِ المُسلمِينَ بَعضِهم لِبَعضٍ؛ فإنَّ الجالِسَ على الطَّريقِ يَمُرُّ به عَددٌ كَبيرٌ مِنَ النَّاسِ، ويَحصُلُ بَينَهم مُعامَلاتٌ كَثيرةٌ؛ فعليه بحُسنِ المُعامَلةِ في كُلِّ هذا
وفيه: دَلالةٌ على النَّدبِ إلى لُزومِ البُيوتِ لِمَن ليس له حاجةٌ في الجُلوسِ في الطَّريقِ، أو لا يَستَطيعُ أنْ يُؤدِّيَ حَقَّه؛ لِأنَّ هذا أسلَمُ له وأحفَظُ لِدينِه