كتاب الخمس 2
مختصر صحيح البخاري
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها، ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنما (23) أو خلفات وهو ينتظر ولادها، فغزا، فدنا من القرية صلاة العصر، أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم! احبسها علينا، فحبست، حتى فتح الله عليه، فجمع الغنائم، فجاءت- يعني: النار- لتأكلها، فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولا، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فليبايعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب، فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها، ثم أحل الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا".
خَصَّ اللهُ سُبحانه كلَّ أُمَّةٍ مِن الأُمَمِ بالتَّشريعاتِ والأحكامِ، وأيَّد كلَّ نَبيٍّ ببَعضِ المُعجِزاتِ التي تُناسِبُ عصْرَه وتُؤيِّدُ نُبوَّتَه، وقدْ خصَّ اللهُ أُمَّةَ الإسلامِ بكَثيرٍ مِن النِّعَمِ في التَّشريعاتِ والأحكامِ على غيرِها مِن الأُمَمِ السَّابقةِ.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بخَبَرِ نَبِيٍّ منَ الأنبياءِ السَّابِقينَ، قيل: إنَّه يُوشَعُ بنُ نُونٍ عليه السَّلامُ، كما عندَ الحاكمِ في المُستدرَكِ، فأخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ هذا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خَرَجَ للغَزوِ، والمدينةُ التي خَرَجَ لها أَرْيحا بفِلَسطينَ، فطَلَبَ مِن قَومِه ألَّا يَخرُجَ معه للحربِ ثَلاثةٌ:
الأوَّلُ: رجُلٌ عَقَدَ على امرأةٍ وأصبَحَ يَملِكُ أنْ يُجامِعَها ولكنَّه لم يَدخُلْ بها؛ وذلك لتَعلُّقِ قلْبِه غالبًا بها، فيَشتغِلُ عمَّا هو عليه مِن الجهادِ والطَّاعةِ، وربَّما ضَعُفَ فِعلُ جَوارحِه، بخلافِ ذلك بعْدَ الدُّخولِ، ويُطلَقُ البُضعُ على الجِماعِ وعلى الفرْجِ.
والثَّاني: رجُلٌ بَنى بُيوتًا ولم يَرفَعْ سُقوفَها، فلمْ يُكمِلْ بِناءها ولم يَسكُنْ فيها.
والثَّالثُ: رَجلٌ اشتَرى غَنمًا أو خَلِفاتٍ -وهي الحواملُ مِن الإبلِ- يَنتظِرُ وِلادَتَها. والمرادُ بذلك ألَّا تَتعلَّقَ قُلوبُهم بإنجازِ ما تَرَكوه وَراءَهُم، فيَنشغِلوا عن الغزْوِ.
فانْطَلَقَ إلى الغزْوِ، وقَرُبَ مِنَ القَريَةِ عندَ صَلاةِ العَصرِ، أو قَريبًا مِن ذلك، وكان القتالُ يومَ الجُمعةِ، وبَقيَ مِن الكفَّارِ بَقيَّةٌ يُقاتِلون، وكادتِ الشَّمسُ تَغرُبُ وتَدخُلُ لَيلةُ السَّبتِ، فخاف يُوشَعُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يَعجِزوا؛ لأنَّه لا يَحِلُّ لهم قِتالُهم فيه، فخاطَبَ الشَّمسَ فقالَ لها: «أنتِ مَأمورةٌ» بالغُروبِ، «وأنا مَأمورٌ» بالقِتالِ، فدَعا اللهَ تعالَى أنْ يَحبِسَ الشَّمسَ فلا تَغرُبَ حتَّى يُتِمُّوا الغَزْوَ، «فحُبِسَتْ»، أي: لم تَغرُبْ ورُدَّت على أدراجِها، أو وَقَفَت أو ضَعُفَت حَرَكتُها حتَّى فَتَحَ اللهُ عليه القرية، فلمَّا جَمَعَ الغَنائمَ -وهي كلُّ ما يَحصُلُ عليه المسلِمون قَهْرًا مِن الكُفَّارِ، وكانت تلك الأُمَّةُ في ذلك الوقتِ إذا غَنِموا غَنيمةً، بَعَثَ اللهُ عليها النَّارَ، فتَأكُلُها- جاءت النَّارُ لتَأكُلَها فلمْ تَأكُلْها، وكان أَكْلُ النَّارِ للغَنيمةِ وحَرْقُها عَلامةَ القَبولِ عِندَهم وعدَمِ الغُلولِ، فقال لهم نَبيُّهم: «إنَّ فيكم غُلولًا»، والغُلولُ الأخذُ مِنَ الغَنيمَةِ بغيرِ حَقٍّ، وهو خِيانةٌ، ولكيْ يَعرِفَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَن سَرَقَ ومَن غلَّ مِن الغَنيمةِ، طَلَبَ أنْ يُبايِعَه مِن كُلِّ قَبيلةٍ رَجلٌ مُختارٌ منها، فيُسلِّمَ عليه بيَدِه ليَعلَمَ في أيِّ قَبيلةٍ منهم وَقَعَت السَّرقةُ، فلمَّا بايَعُوه الْتَصَقَت يَدُ رَجلٍ بِيَدِه، وكانت هذه عَلامةً على وُجودِ الخِيانةِ مِن هذه القَبيلَةِ، فأخبَرَ أنَّ هذه القَبيلةَ فيها غُلولٌ، وقال له: «فلتُبايِعْني قَبيلَتُك» فَرْدًا فَرْدًا، فلمَّا بايَعوه الْتَصَقَت يَدُ رَجُلينِ أو ثَلاثةٍ بيَدِه، فقال: «فيكُم الغَلولُ»، يَعني: أنتُم الذين غَلَلْتُم مِن الغَنيمةِ، فطَلَبَ منهم أنْ يَرُدُّوا ما أخَذوه وسَرَقوه، «فَجاؤوا برَأْسٍ مِثلِ رَأسِ بَقرةٍ مِنَ الذَّهبِ»، وكانوا قَدْ أَخَذوها مِنَ الغَنيمةِ، «فوَضَعوها» مع الغَنائمِ المُقدَّمةِ للحرْقِ، «فجاءتِ النَّارُ فأَكَلَتْها»؛ لأنَّها أصبَحَت بذلك غَنيمةً كاملةً لا غُلولَ فيها، فقَبِلَها اللهُ سُبحانه.
ثمَّ أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ اللهَ تعالَى اختَصَّ أُمَّتَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ أَحَلَّ لهمُ الغنائمَ؛ لعَجْزِهم وضَعْفِهم رَحمةً بِهم، ولِشَرَفِ نَبِيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولم يُحِلَّها لغَيرِهم ممَّن كان قبْلَهم؛ لئلَّا يكونَ قِتالُهم لأجْلِ الغَنيمةِ؛ لقُصورِهم في الإخلاصِ، بخِلافِ هذه الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ؛ فإنَّ الإخلاصَ فيهم غالبٌ.
وفي التَّعبيرِ بـ«لنا» تَعظيمٌ، حيث أدخَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نفْسَه الكريمةَ مَعَنا، وفي قولِه: «إنَّ اللهَ رأَى عَجَزْنا وضَعْفَنا» إشارةً إلى أنَّ الفَضيلةَ عندَ اللهِ تعالَى هي إظهارُ العجْزِ والضَّعْفِ بيْن يَدَيه تعالَى.
وفي الحديثِ: أنَّ فِتَنَ الدُّنيا تَدْعو النَّفْسَ إلى الهَلَعِ ومَحبَّةِ البَقاءِ والخَوفِ مِن المَوتِ.