‌‌مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه335

مسند احمد

‌‌مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه335

حدثنا محمد بن جعفر، وحجاج، قالا: حدثنا شعبة قال: سمعت أبا حمزة، يحدث، عن هلال بن حصن قال: نزلت على أبي سعيد الخدري فضمني وإياه المجلس، قال: فحدث أنه أصبح ذات يوم وقد عصب على بطنه حجرا من الجوع، فقالت له امرأته أو أمه: ائت النبي صلى الله عليه وسلم فاسأله (1) فاسأله، فقد أتاه فلان فسأله، فأعطاه، وأتاه فلان فسأله، فأعطاه، فقال: قلت حتى ألتمس شيئا، قال: فالتمست فأتيته، - قال حجاج: فلم أجد شيئا فأتيته -، وهو يخطب، فأدركت من قوله وهو يقول: " من استعف يعفه الله، ومن استغنى يغنه الله، ومن سألنا إما أن نبذل له، وإما أن نواسيه، - أبو حمزة الشاك - ومن يستعف عنا أو يستغني، أحب إلينا ممن يسألنا " قال: فرجعت فما سألته شيئا. فما زال الله عز وجل يرزقنا حتى ما أعلم في الأنصار أهل بيت أكثر أموالا منا (2)

المالُ مِن فِتَنِ الحَياةِ الدُّنيا الَّتي يَنبَغي لِلْمُؤمِن أنْ يَصُونَ نفسَه عنها، ويَحترِزَ مِن الوُقوعِ فيها، وهو أيضًا رِزقٌ ونِعمةٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ إلى عِبادِه؛ فمَن أخَذه بحَقِّهِ بارَكَ اللهُ له فيه، ومَن تَناوَله بغيرِ حقٍّ أصْبَحَ نِقمَةً وشَقاءً عليه.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ التَّابعيُّ هِلالُ بنُ حِصنٍ: "نَزَلتُ على أبي سَعيدٍ الخُدريِّ" ضَيفًا أو زائرًا "فضمَّني وإيَّاه المَجلِسُ"، فكُنَّا في مَجلِسٍ واحِدٍ "قالَ: فحدَّثَ أنَّه أصبَحَ ذاتَ يَومٍ، وقد عصَبَ على بَطنِهِ حَجَرًا من الجُوعِ" ربَطَ الحجَرَ على بَطنِهِ ومَعِدَتِهِ حتى لا يشعُرَ بالجُوعِ؛ وليُخفِّفَ من أثَرِهِ، "فقالتْ له امرَأتُهُ- أو أُمُّهُ-: ائتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فاسْأَلْهُ فاسْأَلْهُ" اطْلُبْ منه مالًا أو طعامًا "فقد أتاهُ فُلانٌ فسَأَلَهُ، فأعْطاهُ، وأتاهُ فُلانٌ فسَأَلَهُ، فأعْطاهُ" وقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يرُدُّ سائِلًا "فقالَ: قُلتُ: حتَّى ألتَمِسَ شيئًا" أبحَثُ عن شَيءٍ يُغنينا من غَيرِ هذا الوَجهِ، "قالَ: فالتمَستُ فأتَيتُهُ، -قال حجَّاجٌ: فلم أجِدْ شيئًا" فلم أجِدْ طريقًا آخَرَ للطَّلَبِ، وحجَّاجٌ هو ابنُ مُحمَّدٍ المِصِّيصيِّ من رُواةِ الحَديثِ، " فأتيْتُهُ- وهو يخطُبُ، فأدرَكتُ من قَولِهِ وهو يقولُ: "مَنِ استَعَفَّ يُعِفَّهُ اللهُ" مَن ترفَّعَ عن الطَّلَبِ من النَّاسِ وأمسَكَ عن السُّؤالِ يَصُنْهُ اللهُ عن ذلِكَ ويُصَيِّرْهُ عَفِيفًا، والمَقْصودُ أنَّ على المُسلِمِ أنْ يكونَ عزيزًا لا يُهينُ نفسَه، ولا يُهينُ نفسَهُ أمامَ النَّاسِ، وطلَبِ إعاناتِهِمْ "ومَنِ استَغْنى يُغْنِهِ اللهُ" ومَن يَستَغْنِ بما عِندَهُ من اليُسرِ عن المسألةِ يمُدُّه اللهُ بالغِنى من عِندِهِ، وهذا من التَّرقِّي في الفَضلِ والقَناعةِ بإظْهارِ الاسْتِغناءِ عنِ الخَلْقِ فيَملَأِ اللَّهُ قَلْبَهُ غِنًى، "ومَن سَأَلَنا إمَّا أنْ نَبذُلَ له"، نُعطِيَهُ من المالِ "وإمَّا أنْ نُواسِيَهُ" بإطْعامِهِ أو بالدُّعاءِ له، وبتَصْبيرِهِ على أُمورِ الدُّنيا "-أبو حَمْزةَ الشَّاكُّ-" وهو عبدُ الرَّحْمنِ بنُ عَبدِ اللهِ الرَّاوي عن هِلالِ بنِ حِصنٍ، "ومَنْ يَستَعِفُّ عنَّا أو يَستَغْني، أحبُّ إلينا ممَّنْ يَسْأَلُنا"، وهذا من التَّربيةِ النَّبويَّةِ لأصْحابِهِ حتى لا يَستمرِئَ أحَدٌ الطَّلَبَ منه، وتَوجيهِهِ إلى العَمَلِ، والتَّكسُّبِ، وعَدَمِ سُؤالِ النَّاسِ.
قال أبو سَعيدٍ رضِيَ اللهُ عنه: "فرَجَعتُ فما سَأَلتُهُ شيئًا"، ولم أطلُبْ منه شيئًا، بل امتثَلتُ لأمْرِهِ واستَغنَيتُ، "فما زالَ اللهُ عزَّ وجلَّ يَرزُقُنا" من فَضلِهِ ورِزقِهِ "حتَّى ما أعلَمُ في الأنصارِ أهْلَ بَيتٍ أكثَرَ أموالًا منَّا"؛ وذلِكَ رِزقُ اللهِ يُؤتيهِ مَن يشاءُ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّ الرِّزقَ الَّذي آتاهُ اللهُ إيَّاه إنَّما هو مِن أثَرِ اتِّباعِهِ وتَصديقِهِ لأمْرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وإرْشادِهِ.
وفي الحَديثِ: بَيانُ ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الكَرَمِ والسَّخاءِ والإيثارِ على نفسِهِ.
وفيه: الحَضُّ على الاستِغْناءِ عن النَّاسِ، والتَّعفُّفِ، والقَناعةِ، والتوكُّلِ على اللهِ.