كانتِ الهِجرةُ مِن مكَّةَ إلى المدينةِ أمرًا مِن الله لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانتْ بدايةً لمرحلةٍ جديدةٍ مِن الدَّعوةِ ونَشرِ الإسلامِ.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا هاجَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المدينةِ نزَلَ وأقام في أعلى المدينةِ، وهي منطقةُ العَوالي والعاليةِ، وهي قُباءٍ وما حَوْلَها، وكانت قُباءٌ مَسكَنَ بَني عَمرِو بنِ عَوفٍ، وقيل: إنَّ كلَّ ما كان مِن جِهةِ نَجدٍ مِن المدينةِ، مِن قُراها وعَمائرِها إلى تِهامةَ يُسمَّى العاليةَ، وما كان دُونَ ذلك يُسمَّى السافلةَ.
فأقامَ عندَهمُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أرْبَعَ عَشْرةَ لَيلةً، ثُمَّ أرسَلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى أخوالِه بني النَّجَّارِ، فجاؤوه واضعِينَ السُّيوفَ على مَناكِبِهم، وهذا على عادتِهم عندَ ذهابِهم إلى أحَدٍ مِن عُظَمائِهم، أو جاؤوا بهذه الصُّورةِ؛ خَوفًا على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ اليهودِ، وإظهارًا لِنُصرتِهم لِلنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان مقصودُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَنتقِلَ مِن العَوالي إلى وسَطِ المدينةِ، وأنْ يتَّخِذَ بها مسكنًا يَسكُنُه، فرَكِبَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ناقتَه، وأبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه راكبٌ خلْفَه، وفي ذلك دليلٌ على شرَفِ أبي بكرٍ واختِصاصِه به دُونَ سائرِ أصحابِه، وكان رِجالُ بني النَّجَّارِ وشُجعانُهم وأشرافُهُم مِن حَولِه، وتحرَّكَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى وضَعَ رَحْلَه ومتاعَه وما معه بِفِناءِ دارِ أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه، وهو مِن بني النَّجَّارِ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحبُّ أنْ يُصلِّيَ حيثُ أدركَتْه الصَّلاةُ؛ لِيُبيِّنَ أنَّ الأرضَ كلَّها جُعلَتْ له مسجدًا وطَهورًا، وكان يُصلِّي في مَرابضِ الغنمِ، وهي حَظائرُها الَّتي تَأْوي إليها للنَّومِ والرَّاحةِ والمَبيتِ، وهذه رُخْصةٌ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالصَّلاةِ في أماكِنِ تَجمُّعِ الغنَمِ؛ لأنَّها مأمونةُ الجانبِ، ولا تُؤذي أحَدًا، وفيها بَرَكةٌ مِن حيثُ هُدوؤُها، ولِينُ جانبِها، وقلَّةُ حرَكتِها، مع ما فيها مِن منافعَ أخرى، فأرادَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَبنيَ مَسجدًا موضِعَ بُستانٍ لِبعضِ بني النَّجَّارِ، فأرسَلَ إليهم وقال لهم: ثَامِنوني حائطَكم، فقُولوا لي ثَمنَه؛ كي أشتريَه منكم، فأقسَموا بالله إنَّهم يَبتَغون ثَوابَ ذلك العملِ مِنَ اللهِ سبحانه وتعالى، ولا يُريدون عليه مالًا، وكان في هذا المكان قبورٌ قديمةٌ لِلمُشركينَ، وخِرَبٌ ونخلٌ، فأمَر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِنَبشِ قبورِ المشركينَ ونقلِ العِظامِ والرُّفاتِ إلى مكانٍ آخَرَ، وبتَسويةِ الخِرَبِ الَّتي فيها مِثلُ الحُفرِ والأحجارِ والشُّقوقِ ونَحوِها، وقيل: معنَى تَسويةِ الخِربِ: أنَّ البِناءَ الخَرابَ المُستهدمَ يَصيرُ في مَوضِعِه أماكنُ مرتفعةٌ عن الأرضِ، فتَحتاجُ إلى أن تُحفَرَ وتُسَوَّى بالأرضِ، وأمَر بقطْعِ النَّخلِ، ثُمَّ وضَعوا النَّخلَ المقطوعَ تِجاهَ قِبلةِ المسجدِ، وجعَلوا عِضادَتَيْه الحِجارةَ، وأعضادُ كلِّ شَيءٍ ما يَشُدُّه مِن حَوالَيْه مِن البِناءِ، فكأنَّهم جَعَلوا مِن حَولِه الحِجارةَ، وكانوا يَرتَجزون، فيُغَنون الرَّجَزَ، وهو نوعٌ مِن الكلامِ المَوزونِ يُشْبِهُ الشِّعرَ؛ تنشيطًا لِنُفوسِهم؛ لِيَسهُلَ عليهمُ العملُ، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَرتَجِزُ معهم ويقولُ: اللَّهمَّ لا خَيْرَ إلَّا خيرُ الآخِرَهْ، ومعناه: أنَّ الخَيرَ الحقيقيَّ في نعيمِ الآخرةِ؛ لأنَّه دائمٌ وغيرُه إلى الزَّوالِ، فاغفِرْ لِلأنصارِ والمُهاجِرَهْ، وهذا دعاءٌ لهم بالمَغفرةِ، والأنصارُ همُ الأَوْسُ والخَزْرَجُ الَّذينَ نصَرُوه على أعدائِه، والمُهاجِرةُ الَّذينَ هاجَروا مِن مكَّةَ إلى المدينةِ.واستُشكِل قَولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الرَّجَزَ، مع قَولِه تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْر} [يس: 69]، وأُجيبَ: بأنَّ المُمتنعَ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إنشاءُ الشِّعرِ لا إنشادُه، ولم يَكُنْ قولُه عن قَصْدٍ، ولم يَثبُتْ عنه الإِنشاءُ.
وفي الحديثِ: إنشادُ الشِّعرِ والارتِجازُ في حالِ العَملِ والجِهادِ، والاستعانةُ بذلك لتَنشيطِ النُّفوسِ، وتَسهيلِ الأعمالِ.
وفيه: أنَّ صاحبَ السِّلعةِ أحَقُّ بالسَّومِ.
وفيه: دليلٌ على أنَّ المَقبرةَ إذا نُبشَتْ، وأُخرِج ما فيها مِن عِظامِ المَوتى؛ لم تَبْقَ مَقبرةً، وجازَتِ الصَّلاةُ فيها.
وفيه: دليلٌ على عدَمِ الصَّلاةِ في المَقبرةِ، ولو كانت قُبورَ المشركين؛ لِما فيه مِن سدِّ الذَّريعةِ إلى اتِّخاذِ القُبورِ مَساجِدَ؛ فإنَّه إذا تَطاوَلَ العهدُ، ولم تُعرَفِ الحالُ، خُشِيَ مِن ذلك الفِتنةُ.
وفيه: دَليلٌ على أنَّ قُبورَ المُشركينَ لا حُرمةَ لها، وأنَّه يَجوزُ نَبْشُ عِظامِهم ونَقْلُهم مِن الأرضِ للانتِفاعِ بالأرضِ إذا احْتِيجَ إلى ذلك.
وفيه: مَشروعيَّةُ قطْعِ النَّخلِ والأشجارِ للمَصلحةِ العامَّةِ.