مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه 1029

مسند احمد

مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه 1029

في هذا الحَديثِ يَحكي جابِرُ بنُ عَبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَرَجَ منَ المَدينةِ إلى المُشرِكينَ ليُقاتِلَهم، وذلك في غَزوةِ بَدرٍ، فقال له والِدُه عبدُ اللهِ: يا جابِرُ، أرى أن تبقى في نَظَّاري أهلِ المَدينةِ، أي: تَكونَ في جُملةِ النَّظَّارينَ لعاقِبةِ الأمرِ من أهلِ المَدينةِ، حتَّى تَعلمَ إلى ما يَصيرُ أمرُنا من نَصرٍ في المَعرَكةِ أو هَزيمةٍ؛ فإنِّي واللَّهِ لولا أنِّي أترُكُ بَناتٍ لي بَعدي لأحبَبتُ أن تُقتَلَ بَينَ يَدَيَّ، فجَلسَ جابرٌ في النَّظَّارينَ ولم يَخرُجِ امتِثالًا لوصيَّةِ والدِه، وحتَّى يَرعى أخَواتِه، فبَينَما هو كَذلك إذ جاءَت عَمَّتُه -وهي هِندُ بنتُ عَمرٍو- بأبيه عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو، وخالِه وهو عَمرُو بنُ الجَموحِ، قد وضَعَتْهما على ناضِحٍ، أي: بَعيرٍ، قد جَعَلت كُلًّا منهما عِدْلًا للآخَرِ يَحمِلُهما بعيرٌ، فدَخَلت بهما المَدينةَ لتَدفِنَهما في المَقبَرةِ، فإذا هم برَجُلٍ يُنادي: ألا إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأمُرُكُم أن تَرجِعوا بالقَتلى فتَدفِنوها في مَصارِعِها حَيثُ قُتِلَت؛ وذلك لأنَّ الشُّهَداءَ يُدفَنونَ في مَكانِهم، فرَجَعنا بهما فدَفناهما حَيثُ قُتِلا
يَقولُ جابِرٌ: فبَينَما أنا في خِلافةِ مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ إذ جاءَني رَجُلٌ، فقال: يا جابِرُ بنَ عَبدِ اللَّهِ، واللَّهِ لقد أثارَ أباك-أي: كَشَف عنه وأظهَرَه- عُمَّالُ مُعاويةَ، وذلك عِندَما أرادَ مُعاويةُ إجراءَ عَينِ ماءٍ هناكَ، فقامَ بإزالةِ القُبورِ التي كانت هناكَ، ومن ضِمنِها قَبرُ عَبدِ اللَّهِ والِدِ جابرٍ، فلمَّا أثارَ العُمَّالُ التُّرابَ ظَهر والِدُ جابرٍ كَما هو حينَ دُفِنَ، لم يَتَغَيَّرْ إلَّا ما لم يَدَعِ القَتلُ فدَفنتُه. وقد كان المُدَّةُ طَويلةً، وذلك بَعدَ سِتٍّ وأربَعينَ سَنةً من يَومِ دُفِنوا
ثمَّ يَحكي جابِرٌ حالَه بَعدَ وفاةِ والدِه، فيَقولُ: إنَّه تَرَكَ عَليه دَينًا منَ التَّمرِ، واشتَدَّ عَليه بَعضُ غُرَمائِه في التَّقاضي، وليس عِندَ جابرٍ ما يَستَطيعُ قَضاءَهم كُلِّهم، فذَهَبَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأخبَرَه بمَوتِ والدِه وما تَركَ منَ الدَّينِ، وأنَّ الغُرَماءَ يُطالبونَه، وأُحِبُّ أن تُعينَني عَليه لعَلَّه أن يُنظِرَني في طائِفةٍ من تَمرِه أي: يُؤَجِّلَ في المُطالبةِ إلى الصِّرامِ المُقبِلِ، أي: قَطعِ التَّمرِ في السَّنةِ القادِمةِ، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نَعَم، آتيك إن شاءَ اللهُ قَريبًا من وسَطِ النَّهارِ، وجاءَ مَعَه حَواريُّوه، أي: أصحابُه، ثمَّ استَأذَنَ فدَخَل، وقد قُلتُ لامرَأتي: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جاءَني اليَومَ وسَطَ النَّهارِ، فلا أرَينَّكِ ولا تُؤذي رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَيتي بشَيءٍ ولا تُكَلِّميه، فدَخَل ففرَشتُ له فِراشًا ووِسادةً، فوضَعَ رَأسَه فنامَ، قال: وقُلتُ لمولًى لي: اذبَحْ هذه العَناقَ، وهي داجِنٌ سَمينةٌ -والدَّاجِنُ: الشَّاةُ التي يَعلفُها النَّاسُ في مَنازِلِهم- والوَحَى والعَجَلَ. والوَحى، يَعني: السُّرعةَ، أي: أسرِعْ في ذَبحِها وطَبخِها قَبل أن يَستَيقِظَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنا مَعَك، فلم نَزَلْ فيها حتَّى فرَغْنا منها، وهو نائِمٌ، فقُلتُ له: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا استَيقَظَ يَدعو بالطَّهورِ، وإنِّي أخافُ إذا فرَغَ أن يَقومَ، فلا يَفرُغَنَّ من وُضوئِه حتَّى تَضَعَ العَناقَ بَينَ يَدَيه، فلمَّا قامَ قال: يا جابِرُ، ائتِني بطَهورٍ، فلم يَفرُغْ من طَهورِه حتَّى وُضِعَتِ العَناقُ عِندَه، فنَظَرَ إليَّ فقال: كأنَّك قد عَلِمتَ حُبَّنا لِلَّحمِ! ادعُ لي أبا بكرٍ، قال: ثمَّ دَعا حَواريِّيه الذينَ مَعَه فدَخَلوا، فضَرَبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدَيه، وقال: بسمِ اللهِ كُلوا، فأكَلوا حتَّى شَبِعوا، وفضَل لحمٌ منها كَثيرٌ، قال: واللهِ إنَّ مَجلِسَ بني سَلِمةَ -أي: أهلِ جابرٍ وقَبيلتِه- ليَنظُرونَ إليه، وهو أحَبُّ إليهم من أعيُنِهم، ما يَقرَبُه رَجُلٌ منهم مَخافةَ أن يُؤذوه، فلمَّا فرَغوا قامَ، وقامَ أصحابُه فخَرَجوا بَينَ يَدَيه، وكان يَقولُ: خَلُّوا ظَهري للمَلائِكةِ، واتَّبَعتُهم حتَّى بلغوا أُسكُفَّةَ البابِ، أي: خَشَبةَ البابِ وعَتَبَتَه السُّفلى التي يوطَأُ عَليها، قال: وأخرَجَتِ امرَأتي صَدرَها، وكانت مُستَتِرةً بسَفيفٍ في البَيتِ، أي: ما يُنسَجُ منَ الخوصِ، فقالت: يا رَسولَ اللهِ، صَلِّ عَليَّ وعلى زَوجي، صَلَّى اللهُ عليك. أي: ادعُ لي ولزَوجي حتَّى نَنالَ بَرَكةَ دُعائِك، فقال: صَلَّى اللهُ عَليكِ وعلى زَوجِك
ثمَّ قال: ادعُ لي فلانًا؛ لغَريمي الذي اشتَدَّ عَليَّ في الطَّلَبِ، قال: فجاءَ فقال: أيسِرْ جابِرَ بنَ عَبدِ اللَّهِ -يَعني إلى المَيسَرةِ- طائِفةً من دَينِك الذي على أبيه، إلى هذا الصِّرامِ المُقبِلِ، أي: أمهِلْه في سَدادِ الدَّينِ إلى حينِ اليَسارِ والتَّوسِعةِ عَليه، وذلك إلى وَقتِ الصِّرامِ، وهو: قَطعُ الثَّمَرةِ، واجتِناؤُها منَ النَّخلةِ في الفترةِ المُقبِلةِ والقادِمةِ، فقال: ما أنا بفاعِلٍ! واعتَلَّ، أي: تَعَذَّرَ وذَكَرَ بَعضَ الأعذارِ والعِلَلِ، ومن ذلك أنَّها مالُ يَتامى، فقال: أينَ جابرٌ؟ فقال: أنا ذا يا رَسولَ اللهِ، قال: كِلْ له؛ فإنَّ اللهَ سَوف يوفِّيه، فنَظَرتُ إلى السَّماءِ فإذا الشَّمسُ قد دَلَكَت، أي: مالت وزالت عن وسَطِ السَّماءِ، قال: الصَّلاةَ يا أبا بكرٍ، فاندَفعوا إلى المَسجِدِ، فقُلت: قَرِّبْ أوعيَتَك، فكِلْتُ له منَ العَجوةِ فوفَّاه اللهُ، وفضَلَ لنا منَ التَّمرِ كَذا وكَذا! فجِئتُ أسعى إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَسجِدِه، كَأنِّي شَرارةٌ، أي: من شِدَّةِ السُّرعةِ، فوجَدتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد صَلَّى، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ألم تَرَ أنِّي كِلتُ لغَريمي تَمرَه فوفَّاه اللهُ، وفضَل لنا منَ التَّمرِ كَذا وكَذا؟! فقال: أينَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ؟ فجاءَ يُهَروِلُ، أي: مسرعًا في المَشيِ، فقال: سَلْ جابِرَ بنَ عَبدِ اللَّهِ عن غَريمِه وتَمرِه، فقال: ما أنا بسائِلِه، قد عَلِمتُ أنَّ اللهَ سوف يوفِّيه إذ أخبَرتَ أنَّ اللهَ سَوف يوفِّيه! فكَرَّرَ عَليه هذه الكَلِمةَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، كُلَّ ذلك يَقولُ: ما أنا بسائِلِه، وكان لا يُراجَعُ بَعدَ المَرَّةِ الثَّالثةِ، أي: كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُراجَعُ ولا يُكَرَّرُ عَليه الكَلامُ، فعِندَ ذلك قال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: يا جابرُ، ما فعَل غَريمُك وتَمرَك؟! فقال جابِرٌ: وفَّاه اللهُ، وفضَل لنا منَ التَّمرِ كَذا وكَذا! فرَجَعَ جابرٌ إلى امرَأتِه، فقال: ألم أكُنْ نَهَيتُك أن تُكَلِّمي رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالت: أكُنتَ تَظُنُّ أنَّ اللهَ يُورِدُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيتي، ثمَّ يَخرُجُ ولا أسألُه الصَّلاةَ عَليَّ وعلى زَوجي قَبل أن يَخرُجَ؟
وفي هذا الحَديثِ: فَضلُ عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرِو بنِ حَرامٍ والِدِ جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما
وفيه بَذلُ النَّفسِ والوَلَدِ في سَبيلِ اللهِ
وفيه الحِرصُ على تَربيةِ البَناتِ ومُراعاتِهنَّ والإحسانِ إليهنَّ
وفيه إثباتُ كَراماتِ الأولياءِ
وفيه بَيانُ مُعجِزةٍ من مُعجِزاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
وفيه فَضلُ جابرٍ وزَوجَتِه ببَرَكةِ دُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهما
وفيه تَصديقُ الصَّحابةِ ويَقينُهم فيما يَقولُه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما كان من عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنه