مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه 130
مسند احمد
حدثنا هشيم، أخبرنا علي بن زيد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، أن سراقة بن مالك، قال: يا رسول الله، فيم العمل؟ أفي شيء قد فرغ منه؟ أو في شيء نستأنفه؟ فقال: «بل في شيء قد فرغ منه» ، قال: ففيم العمل إذا؟ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»
الإيمانُ بالقَدَرِ مِن أُصولِ الإيمانِ التي لا يَتِمُّ إيمانُ العَبدِ إلَّا بها، وقد قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا سَألَه جِبريلُ عليه السَّلامُ عَنِ الإيمانِ
قال: أن تُؤمِنَ باللهِ ومَلائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه. وقد جاءَ بَيانُ مَفهومِ الإيمانِ بالقَدَرِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ أتَمَّ البَيانِ، وأنَّه يَتَضَمَّنُ عِلمَ اللهِ وقُدرتَه ومَشيئَتَه وخَلْقَه، وأنَّ اللَّهَ تعالى قد قدَّرَ مَقاديرَ الخَلائِقِ وأعمالَهم وإلى ما هم صائِرونَ إلَيه قَبلَ خَلقِ السَّمَواتِ والأرض، ولَكِنْ على العِبادِ العَمَلُ وامتِثالُ الأوامِرِ واجتِنابُ النَّواهي، وعَدَمُ تَركِ العَمَلِ والاتِّكالِ على القَدَرِ؛ ولهذا لما سَألَ ذو اللِّحيةِ -واسمُه سُرَيجُ بنُ عامِرٍ، وقيلَ: ضَحَّاكُ بنُ سُفيانَ الكِلابيُّ رَضيَ اللهُ عنه- رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أمرِ المَقاديرِ، وقال: يا رَسولَ اللهِ، أنَعمَلُ في أمرٍ مُستَأنَفٍ، أي: في تَحصيلِ فائِدةٍ جَديدةٍ ما سَبَقَ بها قدَرٌ، أو أمرٍ قد فُرِغَ مِنه؟ أي: أو أنَّنا نَعمَلُ في أشياءَ قد كُتِبَت علينا سَنَفعَلُها مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا، أي: ليس الأمرُ كذلك، بَل في أمرٍ قد فُرِغَ مِنه، أي: أنَّ ما يَعمَلُه العِبادُ إنَّما بشَيءٍ قد كُتِبَ عليهم، عَلِمَه اللَّهُ تعالى في سابقِ عِلمِه وكَتَبَه؛ لعِلمِه سُبحانَه بما سَيَعمَلُ عِبادُه وما يَستَحِقُّونَ عليه مِنَ الجَزاءِ، والعِبادُ لا يَخرُجونَ عَمَّا قدَّرَه اللهُ وقَضاه. فقال ذو اللِّحيةِ: ففيمَ نَعمَلُ إذًا؟ أي: ففي تَحصيلِ أيِّ فائِدةٍ العَمَلُ؛ فإنَّ الفائِدةَ حاصِلةٌ لا مَحالةَ لسَبقِ القدَرِ بها وإن لَم نَعمَلْ، فما بَقيَ العَمَلُ إلَّا لمُجَرَّدِ التَّعَبِ! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اعمَلوا فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له، أي: عليكُم بالعَمَلِ، وليس عليكُم مِن أمرِ ما كُتِبَ شَيءٌ؛ فإنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنَ النَّاسِ سيُيَسَّرُ لِما خُلِقَ له؛ إن كان مِن أهلِ السَّعادةِ يوفَّقُ لعَمَلِ أهلِ السَّعادةِ لاستِحقاقِه لذلك، وإن كان مِن أهلِ الشَّقاوةِ يُيَسَّرُ لعَمَلِ أهلِ الشَّقاوةِ لاستِحقاقِه لذلك، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُه لِلْعُسْرَى} [الليل: 5- 10]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]
وفي الحَديثِ بَيانُ أنَّ اللَّهَ تعالى قد قدَّرَ مَقاديرَ وأعمالَ الخَلقِ
وفيه أنَّ كُلَّ واحِدٍ يَعمَلُ لِما يُسِّر له
وفيه الأمرُ بالعَمَلِ وعَدَمِ الاتِّكالِ على القَدَرِ السَّابقِ
وفيه مَشروعيَّةُ السُّؤالِ عن مَسائِلِ القَدَرِ إذا كان على سَبيلِ الاستِفسارِ ولَم يَكُنْ على سَبيلِ الاعتِراضِ والإنكارِ