مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه 348
مسند احمد
حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا أسامة، عن عطاء، عن جابر، أنه قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حلق، وجلس للناس، فما سئل عن شيء إلا قال: «لا حرج، لا حرج» ، حتى جاءه رجل، فقال: حلقت قبل أن أنحر، قال: «لا حرج» ، ثم جاءه آخر، فقال: يا رسول الله، حلقت قبل أن أرمي، قال: «لا حرج» ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرفة كلها موقف، والمزدلفة كلها موقف، ومنى كلها منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر»
الحَجُّ رُكنٌ مِن أركانِ الإسلامِ، وتُؤخَذُ جَميعُ أعمالِه مِن سُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومِن سَماحةِ الإسلامِ تَيسيرُه لِشُؤونِ مَناسِكِ الحَجِّ
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ جابِرُ بنُ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما: "نَحَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" بمَعنى أنَّه ذَبَحَ الإبِلَ التي قَدَّمَها هَدْيًا يَومَ العيدِ في العاشِرِ مِن ذي الحِجَّةِ في حَجَّةِ الوَداعِ، "ثم حَلَقَ" شَعرَ رَأْسِه "وجَلَسَ لِلنَّاسِ" لِيُفتِيَهم عن أُمورِ الحَجِّ "فما سُئِلَ عن شَيءٍ" مِن أعمالِ الحَجِّ قُدِّمَ أو أُخِّرَ "إلَّا قالَ: لا حَرَجَ، لا حَرَجَ" بمَعنى: لا يَقَعُ عليكم شَيءٌ مِنَ الإثْمِ والذَّنبِ في تَقديمِ عَمَلٍ على عَمَلٍ أو تأخيرِه، "حتى جاءَه رَجُلٌ، فقالَ: حَلَقتُ قَبلَ أنْ أنحَرَ. قالَ: لا حَرَجَ، ثم جاءَه آخَرُ، فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، حَلَقتُ قَبلَ أنْ أرميَ" بمَعنى: حَلَقتُ أوَّلًا ثم رَمَيتُ الجِمارَ "قالَ: لا حَرَجَ. قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: عَرَفةُ كُلُّها مَوقِفٌ" يَصِحُّ الوُقوفُ بها يَومَ التاسِعِ مِن ذي الحِجَّةِ، فالواقِفُ فيها بأيِّ جُزءٍ مِن أجزائِها آتٍ بسُنَّتِه، مُتَّبعٌ لِطَريقَتِه، ولو بَعُدَ ذلك المَوقِفُ عن مَوقِفِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنَّما قالَ لهم ذلك تَطييبًا لِقُلوبِهم؛ لِئَلَّا يَحزَنوا على بُعدِهم عن مَوقِفِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيَظُنُّوا أنَّ ذلك نَقصٌ في حَجِّهم، أو يَتوَهَّموا أنَّ ذلك المَكانَ ليس مَوقِفًا يُعتَدُّ به؛ لِبُعدِه عن مَوقِفِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وقيلَ: أرادَ بذلك أنْ يَجعَلَ لهم سَعةً في الوُقوفِ بعَرَفةَ، وأنَّ عَرَفةَ كُلَّها مَوقِفٌ؛ حتى لا يُختَصَّ فيه مَكانٌ دونَ آخَرَ. "والمُزدَلِفةُ كُلُّها مَوقِفٌ" وهذا مِنَ التَّخفيفِ على الناسِ بأنْ جَعَلَ المُزدَلِفةَ كُلَّها مَكانًا صَحيحًا لِلوُقوفِ، ولم يُخَصِّصِ المَكانَ الذي وَقَفَ فيه فقط "ومِنًى كُلُّها مَنحَرٌ" فكُلُّها يَصِحُّ الذَّبحُ والنَّحرُ فيها "وكُلُّ فِجاجِ مَكةَ طَريقٌ ومَنحَرٌ" بمَعنى أنَّ مَكةَ كُلَّها يُذبَحُ في أيِّ مَوضِعٍ منها الهَدْيُ. ولا رَيبَ أنَّ هذا مِنَ التَّخفيفِ على الناسِ، ولكِنَّه يَخضَعُ لِتَرتيبِ أولياءِ الأُمورِ وتَنظيمِهم في المَناسِكِ، حيث يُنظِّمونَ أُمورَ الحَجِّ وأماكِنَ الذَّبحِ والنَّحرِ
وفي الحَديثِ: بَيانُ مَكارِمِ أخلاقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حيث جَبَرَ قُلوبَ أصحابِه بأنَّهم على صَوابٍ، وأنَّ بُعدَهم لا يُؤثِّرُ في صِحَّةِ حَجِّهم
وفيه: بَيانُ شَفَقةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأُمَّتِه بالتَّخفيفِ عنهم في مَناسِكِ الحَجِّ
وفيه: الحَثُّ على عَدَمِ التَّزاحُمِ في مَشاعِرِ الحَجِّ، والانتِشارِ على عَرضِها وطُولِها