مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم 254
حدثنا علي بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رجلا من الأنصار ارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين، فأنزل الله تعالى: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم} [آل عمران: 86] إلى آخر الآية، فبعث بها قومه، فرجع تائبا، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك منه وخلى عنه
جعَل اللهُ سبحانه وتعالى بابَ التَّوبةِ مَفتوحًا لكلِّ مَن عَصاه ما لم يُدرِكْه الموتُ قبلَ التَّوبةِ، حتَّى للذي يتوبُ بَعدَ كُفرِه ورِدَّتِه
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما قصَّةَ نُزولِ آيةٍ مِن كِتابِ اللهِ، فيقولُ: "كان رجُلٌ مِن الأنصارِ أسلَم ثمَّ ارتدَّ ولَحِق بالشِّرْكِ"، وقد ورَد عِندَ الطبريِّ عن مُجاهِدٍ، أنَّ هذا الرَّجُلَ هو الحارِثُ بنُ سُويدٍ، أسلَم مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، ثمَّ كفَر الحارِثُ، فرجَع إلى قومِه، "ثمَّ تنَدَّم"، أي: ندم على تركه للإسلام، "فأرسَل إلى قَومِه: سَلُوا لي رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: هل لي مِن توبةٍ"؟ أي: خَشِيَ أنَّه إذا صارَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يُقتَلَ إذا لم يَكُنْ له توبةٌ، فأمَرَ قومَه أنْ يَسألُوا له رسولَ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، "فجاء قومَه إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم فقالوا: إنَّ فُلانًا قد نَدِم، وإنَّه أمَرنا أن نَسألَك: هل له مِن توبةٍ؟"، فنزَلَت الآياتُ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 86]، أي: قامَت عليهم الحُجَجُ والبراهينُ على صِدْقِ ما جاءَهم به الرَّسولُ، ووضَّح لهم الأمرَ، ثمَّ ارتَدُّوا إلى ظُلمةِ الشِّركِ؛ فكيف يَستحِقُّ هؤلاء الهدايةَ بعدَما تلَبَّسوا به مِن العَمايةِ؟! ولهذا قال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86]، ثمَّ قال تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، أي: يَلعَنُهم اللهُ، ويَلعَنُهم خَلقُه، {خَالِدِينَ فِيهَا}، أي: في اللَّعنةِ والعذابِ، {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [آل عمران: 88]، أي: لا يَنقَطِعُ عنهم العذابُ ولا يُخفَّفُ عنهم ساعةً واحدةً، ثمَّ قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 89]، وهذا مِن لُطفِه سُبحانه وبِرِّه ورَأفتِه ورَحمتِه بخَلْقِه: أنَّ مَن تاب إليه تابَ عليه، فلمَّا نزَلَت هذه الآياتُ: "فأُرسِلَ إليه فأسلَم"، أي: فأرسَل النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الحارثِ فجاء مُسلِمًا تائبًا، وقد استَثنى اللهُ مِن هذا الوَعيدِ التَّائبين مِن كُفرِهم وذُنوبِهم، المصلِحين لعُيوبِهم، فإنَّ اللهَ يَغفِرُ لهم ما قدَّموه، ويَعْفو عنهم ما أسلَفوا، ولكن مَن كَفَر وأصَرَّ على كُفرِه، ولم يَزدَدْ إلَّا كفرًا حتَّى مات على كُفرِه: فهؤلاء هم الضَّالُّون عن طريقِ الهدى، السَّالِكون لطَريقِ الشَّقاءِ، وقد استحقُّوا بهذا العذابَ الأليمَ
وفي الحديثِ: سَعةِ فضلِ اللهِ تعالى، ووافِرِ كرَمِه، حيث يَقبَلُ مَن أعرَض عنه، فيَقبَلُ توبةَ العاصي إذا تابَ وأنابَ بقلبٍ خالِصٍ حتَّى مِن الشِّرْكِ ما لم يَمُتِ العبدُ عليه
وفيه: بيانُ سَببِ نُزولِ هذه الآياتِ الكَريماتِ
وفيه: أنَّ الرِّدَّةَ تُبطِلُ الأعمالَ الصَّالحةَ