مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم 401
حدثنا زياد بن عبد الله، قال: حدثنا منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " لا هجرة يقول بعد الفتح - ولكن جهاد ونية، وإن استنفرتم فانفروا "
كانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة على المؤمنين في بداية الإسلام؛ نصرة للإسلام، وحماية للمسلمين، فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وهاجر أصحابه رضوان الله عليهم
وفي هذا الحديث يروي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر يوم فتح مكة -وكان في العام الثامن من الهجرة- أنه لا هجرة من مكة إلى المدينة بعد فتح مكة؛ وذلك لأن المؤمنين في بداية أمرهم كانوا يفرون من اضطهاد الكفار وإيذائهم؛ مخافة أن يفتنوا في دينهم ويرجعوا إلى الكفر، أما بعد فتح مكة وظهور الإسلام، فلم يعد هناك سبب للهجرة؛ إذ صار المؤمن آمنا على نفسه، يعبد ربه كيف شاء، ومتى شاء، وأين شاء، فحكم الهجرة باق في حق من أسلم في دار الكفر، ولم يأمن على دينه، وقدر على الخروج منها. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ولكن جهاد ونية»، أي: ولكن لكم جهاد في الكفار، ونية صالحة في الخير تحصلون بهما الفضائل التي في معنى الهجرة التي كانت مفروضة لمفارقة الفريق الباطل فلا يكثر سوادهم، ولإعلاء كلمة الله وإظهار دينه. وهذه الجملة تضمن بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم بأن مكة ستستمر دار إسلام أبدا؛ لأنه نفى أن يكون هناك هجرة بعد فتحها، وهذا يدل على أنها لن تعود دار كفر مرة أخرى؛ إذ الهجرة تكون من دار الكفر إلى دار الإسلام
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وإذا استنفرتم فانفروا»، أي: إذا دعاكم الإمام إلى غزو لقتال الكفار، فأجيبوه واخرجوا معه
ثم أخبر صلى الله عليه وسلم أن مكة المكرمة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض؛ فإن تحريمها أمر قديم، وشريعة سالفة، ليس مما أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم أو اختص بشرعه. ويحتمل أن يكون المعنى: إنما خلق أرض مكة حين خلقها محرمة. وهذه الحرمة مستمرة إلى يوم القيامة، باقية أبدية. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها»، ويمكن الجمع بين الحديثين بأن تحريمها كان ثابتا من يوم خلق الله السموات والأرض، ثم خفي تحريمها واستمر خفاؤه إلى زمن إبراهيم عليه السلام، فأظهره وأشاعه لا أنه ابتدأه. أو أسند التحريم إلى إبراهيم عليه السلام من حيث إنه مبلغه؛ فإن الحاكم بالشرائع والأحكام كلها هو الله تعالى، والأنبياء يبلغونها، ثم إنها كما تضاف إلى الله تعالى من حيث إنه الحاكم بها، تضاف إلى الرسل؛ لأنها تسمع منهم وتبين على لسانهم
ثم أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لم يحل القتال في البلد الحرام لأحد قبله، وإنما خصه الله عز وجل بذلك، ولم يحل له إلا ساعة من نهار، ثم عادت حرمته كما كانت، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وقد جاء في الصحيحين بيان سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ وهو: أن «خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فركب راحلته، فخطب، فقال: إن الله عز وجل حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين»، أي: منعها وحفظها من فيل أبرهة الحبشي الذي أتى به لهدم الكعبة، ومكن رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من ولايتها والتغلب على أهلها.
ثم بين صلى الله عليه وسلم حرمة هذا البلد بأنه «لا يعضد شوكه»، أي: لا يقطع، وذكر الشوك دليل على أن غيره مما لا يؤذي بالأولى، ويخصص بالمؤذي، فيجوز قطعه قياسا على حل قتل الفواسق الخمس في الحرم بجامع الإيذاء. وفي رواية الصحيحين: «ولا يعضد شجرها»، فلا يكسر ولا يقطع، «ولا ينفر صيده»، فلا يزعج من مكانه ولا يحل صيده، «ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها»، فلا يستفاد من لقطة مكة المفقودة من أي شخص كما يستفاد منها في الأماكن الأخرى غير مكة، إلا لمن يعرفها وينادي عليها، حتى يجيء صاحبها، ولا يأخذها للتمليك، واللقطة: هي ما يجده الإنسان من مال ضائع في الطريق لا يعرف له صاحب، «ولا يختلى خلاه»، فلا يقطع نباته، لا الشجر الكبار ولا الشجر الصغار، أو النبات الصغير الذي هو الحشيش الرطب
فأراد العباس رضي الله عنه أن يرخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم في نبات الإذخر، وهو: نبات عشبي عريض الأوراق من فصيلة النجيليات، له رائحة ليمونية عطرة، أزهاره تستعمل منقوعة كالشاي؛ «فإنه لقينهم»، والقين: هو الحداد؛ فإنه يستعمل الإذخر في إيقاد النار، وهو نافع لهم في حرقه بدلا عن الحطب، ويستخدمه الناس في بيوتهم لسقفها، وكذا لسقف قبورهم، والمعنى: لبيوتهم حال حياتهم ومماتهم، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، ورخص لهم فيه
وفي الحديث: تعظيم الله تعالى لمكة المكرمة، والنهي عن القتال بها
وفيه: أن مكة فتحت عنوة، وليس صلحا