مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما172
مسند احمد
حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو، قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، قام في الناس خطيبا، فقال: " يا أيها الناس، إنه ما كان من حلف في الجاهلية، فإن الإسلام لم يزده إلا شدة، ولا حلف في الإسلام، والمسلمون يد على من سواهم، تكافأ دماؤهم، يجير (2) عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، ترد سراياهم على قعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، دية الكافر نصف دية المسلم، لا جلب ولا جنب، ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في ديارهم "
هذا الحَديثُ بمَنزِلةِ القَواعِدِ والأُصولِ لِتَعامُلِ المُسلِمينَ فيما بَينَهم، وفيما بَينَهم وبَينَ غَيرِهم، فيُخبِرُ عَبدُ اللهِ بنُ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما: "لَمَّا دَخَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَكةَ عامَ الفَتحِ" وكانَ في العامِ الثَّامِنِ مِنَ الهِجرةِ، وكانَ فَتحًا عَظيمًا على الإسلامِ والمُسلِمينَ، "قامَ في الناسِ خَطيبًا، فقالَ: يا أيُّها الناسُ، إنَّه ما كانَ مِن حِلْفٍ في الجاهِليَّةِ" والحِلْفُ: العَقدُ والعَهدُ، والمُرادُ ما كانوا يَتَحالَفونَ عليه في الجاهِليَّةِ على نَصْرِ بَعضِهم بَعضًا في كُلِّ ما يَفعَلونَه، فهَدَمَ الإسلامُ ذلك، إلَّا ما كانَ عَهدًا على الحَقِّ والنُّصرَةِ والأخْذِ على يَدِ الظَّالِمِ الباغي، كحِلفِ الفُضولِ، الذي شارَكَ فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والجاهِليَّةُ فَتْرةُ ما قَبلَ الإسلامِ؛ سُمِّيتْ به لِكَثرةِ جَهالَاتِهم في تلك الفَترةِ؛ "فإنَّ الإسلامَ لم يَزِدْه إلَّا شِدَّةً" لم يَنسَخِ الإسلامُ هذا النَّوعَ مِنَ الحِلفِ، ولم يُبطِلْه حُكمُ القُرآنِ، بل زادَه وَفاءً بِالعُهودِ وحِفظًا لِلحقوقِ والذِّمَمِ، "ولا حِلفَ في الإسلامِ" وإنَّما نُفِيَ الحِلْفُ في الإسلامِ لِأنَّ الإسلامَ يُوجِبُ على المُسلِمِ لِأخيهِ المُسلِمِ مِنَ التَّعاوُنِ والأُخوَّةِ والتَّناصُرِ ما هو فَوقَ المَطلوبِ مِنَ الحِلْفِ؛ فلا مَعنى لِعقدِ الحِلفِ بَيْنَ المُسلِمينَ، وما حَصلَ بَينَ المُهاجِرينَ والأنْصارِ فليسَ مِن قَبيلِ أحلافِ الجاهِليَّةِ، وإنَّما هو شَيءٌ فيه مَصلَحةٌ لِلمُهاجِرينَ، وقد كانوا يَتوارَثونَ بذلك مع الأنْصارِ، "والمُسلِمونَ يَدٌ" قُوَّةٌ مُجتَمِعةٌ، "على مَن سِواهم" على أعدائِهم وأعداءِ دِينِهم، "تَكافَأُ دِماؤُهم"، تَتَساوَى دِماؤُهم في القِصاصِ، والدِّيَاتِ لبَعضِهم مِن بَعضٍ، وليسَ كما كانَ في الجاهِليَّةِ، حيثُ كانوا لا يَقتَصُّونَ لِلرَّجُلِ الشَّريفِ مِنَ الوَضيعِ؛ فأبطَلَ الإسلامُ حُكمَ الجاهِليَّةِ، وجَعَلَ دِماءَ المُسلِمينَ على التَّكافُؤِ، وإنْ كانَ بَينَهم تَفاضُلٌ وتَفاوُتٌ، "يُجيرُ عليهم أدناهم" إذا أعطى أحَدٌ مِنَ المُسلِمينَ عَهدًا وذِمَّةً لِغَيرِ مُسلِمٍ، ولو كان ذلك مِن عَبدٍ أو أمَةٍ، وَجَبَ على باقي المُسلِمينَ أنْ يُوفُوا له عَهدَه، وفي قَولِه: (أدْناهم) إشارةٌ إلى التَّقليلِ مِن شَأنِ مَنْ يُعطي العَهدَ، وعلى المُسلِمينَ أنْ يُكْبِروه في ذلك العَهدِ ويَحتَرِموه فيه، "ويَرُدُّ عليهم أقصاهم؛ تُرَدُّ سَراياهم على قَعَدِهم"، ومعناه: ويَرُدُّ على المُسلِمينَ أقصاهم وأبعَدُهم إلى جِهةِ العَدوِّ لِلجِهادِ ما غَنِمَ مِن أموالِ الكُفَّارِ؛ فيَرُدُّ خُمُسَها إلى بَيتِ المالِ بَعدَما اقتَسَموا أربَعةَ أخماسِها، وكذلك مَنْ غَنِموا في سَرِيَّةٍ تُرَدُّ غَنيمَتُهم على الجَيشِ الذي خَرَجتْ منه تلك السَّرِيَّةُ، وقَعَدِهم: مُفرَدُ القَعيدةِ: وهي الفِئةُ المُتأخِّرةُ عنِ القِتالِ المُثبَّطةُ عنِ السَّرايا الخارِجةِ لِمُهِمَّةٍ؛ فهم يَحفَظونَ ظَهرَ السَّرايا، وهم شُركاءُ في الغَنيمةِ "لا يُقتَلُ مُؤمِنٌ بكافِرٍ"، إذا قَتَلَ مُؤمِنٌ كافِرًا فلا قِصاصَ عليه، ولكنْ فيه الدِّيةُ لِلكافِرِ المَقتولِ، ثم بَيَّنَ قَدْرَها، فقالَ: "ديةُ الكافِرِ نِصفُ ديةِ المُسلِمِ" والدِّيةُ هي: مِقدارُ ما يَدفَعُه عَصَبةُ القاتِلِ إلى وَرَثةِ المَقتولِ؛ عِوَضًا عن سَفْكِ دَمِه، فتَكونُ في حَقِّ المَقتولِ الكافِرِ على النِّصفِ في القيمةِ التي تُدفَعُ في حَقِّ المَقتولِ المُسلِمِ، ثم قالَ: "لا جَلَبَ" وهو أنْ يَكونَ العامِلُ الذي يَقبِضُ الزَّكاةَ نازِلًا في مَكانٍ بَعيدٍ عن أموالِ النَّاسِ وأملاكِهم، فيَطلُبَ مِن أصحابِ الأموالِ جَلبَ تلك الأموالِ إليه، فيَتسَبَّبَ بذلك في حُصولِ مَشقَّةٍ لهم إنْ كانَتْ أماكِنُ المَرْعى بَعيدةً عن مَكانِه، "ولا جَنَبَ" وهو أنْ يُبعِدَ رَبُّ المالِ مالَه عنِ العامِلِ الذي يَأتي فيَأخُذُ الزَّكاةَ؛ حتَّى يَضطَرَّه رَبُّ المالِ إلى اتِّباعِه واللُّحوقِ به، "ولا تُؤخَذُ صَدَقاتُهم إلَّا في ديارِهم"؛ تَأكيدٌ لِمَا تَقدَّمَ، وهو أنَّ العامِلَ لا يَضُرُّ برَبِّ المالِ، ولا يَشُقُّ عليه، ولا يَضُرُّ رَبُّ المالِ بالعامِلِ.
وفي الحَديثِ: هَدمُ الإسلامِ لِمَا كانَ في الجاهِليَّةِ مِن عاداتٍ سَيِّئةٍ وذَميمةٍ.
وفيه: أنَّ الوَلاءَ بَينَ المُسلِمينَ يَكونُ لِلدِّينِ، لا لِأرضٍ أو نَسَبٍ أو غيرِ ذلك.
وفيه: أنَّ المُسلِمينَ يَتَساوى بَعضُهم مع بَعضٍ، وهم أكْفاءُ لِبَعْضِهم.
وفيه: الحَثُّ على التَّيسيرِ في جَمْعِ أموالِ الزَّكاةِ والصَّدَقاتِ لِصاحِبِ المالِ والعامِلِ.