مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما86
مسند احمد
حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا سعيد، حدثني عياش (1) بن عباس، عن عيسى بن هلال الصدفي، عن عبد الله بن عمرو، قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أقرئني يا رسول الله، قال له: " اقرأ ثلاثا من ذات الر "، فقال الرجل: كبرت سني، واشتد قلبي، وغلظ لساني، قال (2) : " فاقرأ من ذات حم " فقال: مثل مقالته الأولى، فقال: " اقرأ ثلاثا من المسبحات "، فقال: مثل مقالته، فقال الرجل: ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة فأقرأه: إذا زلزلت الأرض حتى إذا فرغ منها قال الرجل: والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليها أبدا، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفلح الرويجل، أفلح الرويجل "، ثم قال: علي به، فجاءه، فقال له: " أمرت بيوم الأضحى، جعله الله عيدا لهذه الأمة "، فقال الرجل: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة ابني، أفأضحي بها؟ قال: " لا، ولكن (3) تأخذ من شعرك، وتقلم أظفارك، وتقص شاربك، وتحلق عانتك، فذلك (4) تمام أضحيتك عند الله " (5)
الرِّفقُ والتَّيسيرُ على النَّاسِ والتَّدَرُّجُ بهم في الأعمالِ مِن أهَمِّ الصِّفاتِ التي عَلَّمنا إيَّاها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في التَّعامُلِ مَعَ المَدعوِّينَ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أحسَنِ النَّاسِ تَعليمًا ورِفقًا بأصحابِه. وفي هذا الحَديثِ يَحكي عَبدُ اللَّهِ بنُ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَجُلًا أتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رَسولَ اللهِ، أقرِئْني، أي: عَلِّمْني مِن القُرآنِ ما يَكفيني في التَّعَبُّدِ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اقرَأْ ثَلاثًا مِن ذاتِ {الر}، أي: احفَظْ ثَلاثَ سُوَرِ التي أوائِلُها قَولُه تعالى: {الر}، وهيَ: يونُسُ، وهودٌ، ويوسُفُ، وإبراهيمُ، والحِجرُ. فقال الرَّجُلُ: كَبِرَت سِنِّي، أي: تَقدَّمَ بي السِّنُّ، واشتَدَّ قَلبي، أي: صَلُبَ عن ثُبوتِ شَيءٍ يَنزِلُ عليه، يُريدُ بذلك قِلَّةَ الحِفظِ وكَثرةَ النِّسيانِ. وغَلُظَ لِساني، أي: عن النُّطقِ بالحُروفِ وسُرعةِ حَرّكَتِها بخِلافِ لسانِ الصَّغيرِ في سُرعةِ حَرَكةِ لسانِه وجِسمِه كُلِّه، أو ثَقُل بحَيثُ لم يُطاوِعْني في تَعَلُّمِ القُرآنِ ولا تَعَلُّمِ السُّوَرِ الطِّوالِ. فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فاقرَأْ مِن ذاتِ حم، أي: فإن كُنتَ لا تَستَطيعُ قِراءَتَهنَّ فاقرَأْ مِن السُّورِ التي أوَّلُها: {حم}، وهيَ سَبعُ حَواميمَ: غافِر، وفُصِّلَت، والشُّورى، والزُّخرُف، والدُّخان، والجاثيةُ، والأحقافُ. وهيَ أقصَرُ مِن ذَواتِ الرَّاءِ، فقال الرَّجُلُ مِثلَ مَقالتِه الأولى، أي: اعتَذَرَ عن حِفظِها بمِثلِ قَولِه الأوَّلِ مِن كِبَرِ سِنِّه وغِلَظِ لسانِه وضَعفِ حِفظِه، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اقرَأْ ثَلاثًا مِن المُسَبِّحاتِ، أي: اقرَأ ثَلاثَ سُوَرٍ مِن السُّورِ التي تَبدَأُ بـ{سَبِّحْ} أو {يُسَبِّحُ}، وهيَ: الحَديدُ، والحَشرُ، والصَّفُّ، والجُمُعةُ، والتَّغابُنُ، والأعلى. فقال الرَّجُلُ مِثلَ مَقالتِه، أي: اعتَذَرَ عن ذلك. وقال: ولكِنْ أقرِئْني يا رَسولَ اللهِ سورةً جامِعةً، أي: دُلَّني يا رَسولَ اللهِ على سورةٍ تَجمَعُ كُلَّ مَعاني الخَيرِ والشَّرِّ في العَمَلِ مِن الفرائِضِ أو النَّوافِلِ. فأقرَأْه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} حتَّى إذا فرَغَ مِنها، أي: عَلَّمَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سورةَ الزَّلزَلةِ كامِلةً. فقال الرَّجُلُ: والذي بَعَثَك بالحَقِّ، لا أزيدُ عليها أبَدًا، أي: على العَمَلِ بما دَلَّ عليه ما أقرَأتَنيه مِن فِعلِ الخَيرِ وتَركِ الشَّرِّ، ولعَلَّ القَصدَ بالحَلِفِ تَأكيدُ العَزمِ، لا سيَّما بحُضورِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي بمَنزِلةِ المُبايَعةِ والعَهدِ. ثُمَّ أدبَرَ الرَّجُلُ، أي: ولَّى دُبُرَه وذَهَب، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أفلحَ الرُّوَيجِلُ، أفلحَ الرُّوَيجِلُ، أي: فازَ بالخَيرِ الكَثيرِ، والرُّويجِلُ: تَصغيرُ رَجُلٍ، وهو تَصغيرُ تَعظيمٍ لقوَّةِ إدراكِ الرَّجُلِ وبُعدِ نَظَرِه، وكُرِّرَ للتَّأكيدِ، وقيل: لشِدَّةِ إعجابِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الرَّجُلِ. ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: عليَّ به، أي: رَدُّوا عليَّ الرَّجُلَ، فجاءَه، أي: رَجَعَ الرَّجُلُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أُمِرتُ بيَومِ الأضحى، أي: بالتَّضحيةِ في عيدِ الأضحى، جَعَله اللهُ، أي: يَومَ الأضحى، عيدًا لهذه الأُمَّةِ، أي: أُمِرتُ بيَومِ الأضحى أن أتَّخِذَه عيدًا، ولمَّا فَهِمَ الرَّجُلُ أنَّ المَأمورَ به الأُضحيَّةُ قال: أرَأيتَ، أي: أخبِرْني، يا رَسولَ اللهِ إن لم أجِدْ إلَّا مَنيحةَ ابني. المَنيحةُ: أن يُعطيَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ ناقةً أو شاةً يَنتَفِعُ بلبَنِها ويُعيدُها، وكَذا إذا أُعطيَ ليَنتَفِعَ بصوفِها ووبَرِها زَمانًا ثُمَّ يَرُدُّها، أي: لمَ أجِدْ ما أُضَحِّي به إلَّا مَنيحةَ وَلَدي، أفأُضحِّي بها؟ أي: فهَل تُجزِئُ أن أُضَحِّيَ بها؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا، أي: لا تُجزِئُ التَّضحيةُ بهذه المَنيحةِ، وإنَّما مَنعَه لأنَّه لم يَكُنْ عِندَه شَيءٌ سِواها يَنتَفِعُ به. ولكِن تَأخُذُ مِن شَعرِك، أي: تحلِقُ أو تُقَصِّرُ مِن شَعرِ رَأسِك وإبْطِك ونَحوِهما، وتُقَلِّمُ أظفارَك، أي: تَقُصُّها، وتَقُصُّ شارِبَك، أي: تُخَفِّفُه، وتَحلِقُ عانَتَك. وهو الشَّعرُ الذي فوقَ الذَّكَرِ. فذلك، أي: إذا عَمِلتَ هذه الخِصالَ، تَمامُ أُضحيَّتِك عِندَ اللهِ، أي: فهذا العَمَلُ مِمَّا تَتِمُّ به أُضحيَّتُك، بمَعنى أنَّه يُكتَبُ لك به أجرُ أُضحيَّةٍ تامَّةٍ، لا بمَعنى أنَّ لك أُضحيَّةً ناقِصةً إن لم تَفعَلْ ذلك، وإن فَعَلتَه تَصيرُ تامَّةً، وكَأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أرشَدَه إلى أن يُشارِكَ المُسلِمينَ في العيدِ والسُّرورِ وإزالةِ الوَسَخِ، فذاكَ يَكفيه إذا لم يَجِدِ الأُضحيَّةَ، وظاهِرُ الحَديثِ أنَّ هذه الأعمالُ تَقومُ مَقامَ الأُضحيَّةِ الكامِلةِ، لكِن لمَن لم يَجِدْها.
وفي الحَديثِ مُراعاةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأحوالِ النَّاسِ، وتَيسيرُه عليهم في أُمورِ الدِّينِ.
وفيه تَكليفُ النَّاسِ مِن العِباداتِ ما يُطيقونَ ويَقدِرونَ عليه.
وفيه أنَّ على العالمِ والمُفتي أن يُراعيَ في فتواه حالَ السَّائِلِ في قوَّتِه وقُدرَتِه على العِبادةِ، فما رَآه عاجِزًا عنه أرشَدَه إلى ما هو أهونُ عليه مِمَّا يُطيقُ المواظَبةَ عليه بلا مَشَقَّةٍ.
وفيه فضلُ سورةِ الزَّلزَلةِ.
وفيه مَشروعيَّةُ الحَلفِ بقَولِ: والذي بَعَثَك بالحَقِّ.
وفيه مَشروعيَّةُ الحَلِفِ مِن غَيرِ استِحلافٍ.
وفيه مَشروعيَّةُ الأُضحيَّةِ في عيدِ الأضحى.
وفيه عِظَمُ فضيلةِ المَنيحةِ، وأنَّ استِمرارَها في المَنيحةِ أفضَلُ مِن ذَبحِها للأُضحيَّةِ؛ لتعَلُّقِ حَقِّ الغَيرِ بها.
وفيه أنَّ مَن لم يَجِدِ الأُضحيَّةَ يُشرَعُ له أن يَتَنَظَّفَ ويَتَهَيَّأَ ليَومِ العيدِ بأخذِ شَعرِه، وتَقليمِ أظفارِه، وقَصِّ شارِبِه، وحَلقِ عانَتِه؛ فإنَّه يَقومُ مَقامَ مَن ضَحَّى.
وفيه مَشروعيَّةُ التَّنَظُّفِ في يَومِ العيدِ؛ لأنَّه يَومُ اجتِماعِ النَّاسِ.